نغَّص العدوان الإسرائيلي الأخير الذي استهدف الضاحية الجنوبية وبعض قرى الجنوب، ولا سيما منها عين قانا، على اللبنانيين، فرحتين: فرحة الاحتفال بعيد الأضحى، بين أهلهم وذويهم، وفي قراهم ولو مهدمَّة. و"الفرحة" بإيجاد الحكومة حلًّا ترقيعيّاً لتمويل منح للعسكريين، سواء للذين هم في الخدمة الفعلية أم للمتقاعدين منهم.
وفي كلتا الحالين، نسجل على العهد الجديد، وقد مضى عليه خمسة أشهر، وعلى الحكومة الجديدة بعدما تجاوز عمرها الأيام المئة، عدم الإقدام... والارتجال. ولا عذر لهما.
أما العدوان الذي لم نفتش عن سبب لشنّه، لأنه سلوك متجذِّر في طبيعة إسرائيل، فلِمَ لم تجرؤ الحكومة اللبنانية على رفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي، خصوصاً أنه ليس العدوان الأول، مذ سرى وقف إطلاق النار، ولن يكون الأخير بحسب التهديدات الإسرائيلية، وآخرها على لسان وزير الدفاع يسرائيل كاتس "إذا لم تفعلوا المطلوب (أي نزع سلاح حزب الله) فسنواصل العمل بكل قوة".
فما الذي يمنع الحكومة من تقديم تلك الشكوى، مع العلم أن كل الذرائع التي تتخذها إسرائيل لشن اعتداءاتها، ساقطة بالدليل والوقائع، وليُسأل قائد الجيش العماد رودولف هيكل، وحده دون غيره، إذ إنَّ لديه العلم اليقين؟
ما يمنعها واحد من أمرين أو الأمران معًا. الأول خشية الحكومة أن تضطر الولايات المتحدة الأميركية، راعية العهد والحكومة، إلى استعمال حق النقض ضد أي قرار يصدر بإدانة إسرائيل... إسرائيل التي شنت عدوانها الأخير متبجّحة بالدعم الأميركي لها، فتُحرَج واشنطن، هي التي "يكفيها ما فيها" من جراء مواقفها المتعلقة بالقضية الفلسطينية وحرب غزة وحرب الإسناد، من دعم مطلق للدولة العبرية.
أما الأمر الثاني فعجز الحكم والحكومة عن تنفيذ وعود أطلقاها، ربما، للراعية الدولية، في شأن سلاح "حزب الله"، خصوصاً بعد ما أصاب الحزب نتيجة حرب الإسناد، فكُلفت إسرائيل القيام بما سيعجزان عن تنفيذه، في مقابل جرِّ لبنان إلى معاهدة سلام، في قابل الأيام.
أما في شأن إصدار مجلس الوزراء مرسوماً بإجماع أعضائه، قضى بزيادة 100 ألف ليرة على صفيحة البنزين و174 ألفًا على صفيحة المازوت، لتوفير مبالغ تعطى للعسكريين في الخدمة الفعليّة كمنحة شهريّة بقيمة 14 مليون ليرة، ومنحة شهرية بقيمة 12 مليون ليرة للعسكريين المتقاعدين... فهو قرار يجسد قمة الارتجال وغياب أي رؤية اقتصادية، إذ ثمة فوائض ماليَّة وموارد أخرى تغذّي الخزينة، كان يجب اللجوء إليها لتغطية هذه المنح، إلَّا أنَّ الحكومة ارتأت ألَّا تمد يدها على خزينتها، فـ"استقربت" بمدِّ يدها على جيب المواطن الذي لم يعرف بعد كيف يرد لها "جمائلها" الكثيرة، بسرقة ودائعه في المصارف، وغلاء المعيشة الفاحش، وتعبيد الطريق أمامه للهجرة، وجعله يأكل خبزه بدمه المنزوف، لا بعرق جبينه فحسب.
والمضحك المبكي في هذا القرار الترقيعي المرتجل، تعمُّد الحكومة إقرار الرسم والتراجع عنه أو التنصل منه أو محاولة استلحاق نفسها، بعد بروز معارضة شعبية واسعة له. أما قمَّة السخرية فلجوء فريق وزير الطاقة إلى الطعن في المرسوم، لأن وباله عليه كان كبيراً، وإذا لم يصحَّح الوضع، فسيصبح أكبر.
صحيح أن وزير الطاقة الأصلي كان خارج البلاد حين طرح الموضوع في مجلس الوزراء، فوقَّعت عنه وزيرة الطاقة بالإنابة. لكن رئيس الحكومة كان فاتح الوزير الأصلي بالموضوع فلم يمانع، وعرض الوزير الأصلي الموضوع على مرجعيته السياسية، فأخذت علماً. كان يُعتقد أن الأمر سيمر من دون ضجة، ليتبين أن تلك الزيادة على المحروقات السائلة، وإن كان الهدف منها يصب في مصلحة العسكريين، ستنعكس سلباً على قطاعات أخرى، ولا سيما منها فواتير المولدات الكهربائية وأسعار السلع الغذائية وتكاليف النقل... إلخ.
إجماع الوزراء على المرسوم، الذي وافق عليه من دون نقاش الوزراء الثلاثة الحاضرون من مرجعية وزير الطاقة الأصلي نفسها، والذي حاول أن يخالفه وزير واحد، غير هؤلاء جميعًا، بحجة أن ثمة موارد أخرى يمكن اللجوء إليها، بدلًا من هذا الإجراء، لكن الحاجة إلى حل سريع فرضته على الجميع.
نواب ينتمون إلى المرجعية السياسية نفسها للوزير الأصلي، اعترضوا على القرار. وكان من المفترض بهم أن يقدموا أمس الجمعة طعنًا في المرسوم، فأرجئت الخطوة إلى الأسبوع المقبل... (جميل أن يعارض نواب وزيرهم). كوادر وصحفيون من أتباع الجهة نفسها، التزاماً أو تأييداً، أدلوا بدلائهم، لكنّ تبريراتهم لم تقنع أحدًا. فانبرى صاحب المرجعية السياسية للإيضاح والتبرير أيضاً. فردَّ عليه وزير المال ووزيرة الطاقة بالإنابة ووزير الطاقة السابق وغالطوه... كأنِّي بالمواطن راح يعلِّق، بينه وبين نفسه، على كل ما سبق من تبريرات "إني أسمع جعجعة، ولا أرى طحيناً".
فما بُرئ الوزير الأصلي، ولا مرجعيته، لا بل ثبتت عليه "التهمة" بالجرم المشهود، علمًا أنَّ القرار جماعي يتحمَّل مسؤوليته مجلس الوزراء مجتمعًا...
أما وقد صدر مرسوم الزيادات، وما عاد ينفع أن يرغي أحد أو يزبد، فنتذكر الشاعر إسماعيل بن عمَّار الأسدي الذي هجا رجلاً كان يتولى شيئاً من الوقوف للقاضي في الكوفة، على ما روى أبو فرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني":
بَنَى مَسْجَدًا بُنْيَانُهُ مِنْ خِيَانَةٍ
لَعَمْرِي لَقِدْماً كُنْتَ غَيْرَ مُوَفَّقِ
كَصَاحِبَةِ الرُّمَّان لَمَّا تَصَدَّقَتْ
جَرَتْ مَثَلًا لِلْخَائِنِ الْمُتَصَدِّقِ
يَقُولُ لَهَا أَهْلُ الصَّلَاحِ نَصِيحَةً
لَكِ الْوَيْلُ لَا تَزْنِي وَلَا تَتَصَدَّقِي.