سُجلت في العقدين الماضيين محاولات حثيثة للقضاء على بنية الفساد في لبنان. لكن الفساد كان يستشري أكثر فأكثر مع كل محاولة، سواء تمثلت بحُقَنِ "مصل" القوانين الاصلاحية، أو إجراء عمليات استئصالية في بنيته الإدارية، كما حدث في "النافعة" و"العقارية".
قانون الشراء العام الذي يحمل الرقم 244/2021، واحد من أهم القوانين الإصلاحية لمكافحة الفساد التي أقرّها لبنان في الآونة الأخيرة. فالقانون اللبناني كان يفتقر إلى نص عصري وموحّد للشراء العام، استفادت منه الإدارات العامة لتجاوز "إدارة المناقصات"، وإجراء معظم الصفقات بالتراضي مع ما تحمله من شبهات فساد وهدر للمال العام. وعلى الرغم من أهمية قانون الشراء، الذي أعِدّ بإحكام لإلزام الإدارات بإجراء مناقصات شفافة، ووضع دفتر شروط يوسع هامش المنافسة، فقد بيّن عند التطبيق قصوراً لجهة عدم شموليته، بما يتناقض مع واحدة من أهم أهداف القانون. فبقيت ثلاث من أكبر الشركات العاملة في لبنان وهي "الكازينو" وإدارة حصر التبغ والتنباك "الريجي" وشركة طيران الشرق الاوسط "الميدل إيست" خارجه. مع العلم أنها تتبع للدولة، وتُنفق من المال بشكل مباشر وغير مباشر.
قصور في صياغة القانون
استغلت هذه الشركات الخاصة الثلاث، الواجب إخضاعها للقانون ثغرة في صياغته لعدم الانضواء تحت سقفه. ففي حين عرّف القانون الجهات الشارية التي تخضع له بالاسم، (مثل الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة، البلديات واتحاداتها، البعثات الدبلوماسية في الخارج، الأجهزة الأمنية والعسكرية والمؤسسات والإدارات والوحدات التابعة لها)، وعرّف أيضا الجهات الشارية بالصفة الواضحة (مثل الهيئات الناظمة والهيئات الإدارية المستقلة)، فتح مجالا للتأويل لجهتين أساسيتين:
- الشركات التي تملك فيها الدولة وتعمل في بيئة احتكارية.
- المرافق العامة التي تديرها شركات خاصة لصالح الدولة.
اقتراح قانون لتعديل قانون الشراء العام
عدم الدقة في التوصيف دفع بشركة طيران الشرق الاوسط، والكازينو والريجي، أي إدارة حصر التبغ، وهي شركات محتكرة، للقول إن مالكها ليس الدولة بل مصرف لبنان. وبالتالي لا ينطبق عليها قانون الشراء العام. الأمر الذي استوجب "التقدم باقتراح قانون لتعديل قانون الشراء العام، وتسمية هذه الشركات بالاسم"، يقول رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان، "نظراً لكونها إما تنفق من المال العام ومدرجة في الموازنة العامة للدولة كالريجي، وإما أن مصرف لبنان ملَكَها وهو يتبع للدولة مباشرة كشركة طيران الشرق الاوسط، وإما أن شركة مالية تتبع لمصرف لبنان تملكها مثل الكازينو الذي يتبع لشركة إنترا التابعة لمصرف لبنان". وبهذه الطريقة نزيل اللبس من القانون وتصبح هذه الكيانات خاضعة لقانون الشراء العام الذي يخضع له مصرف لبنان بنفسه"، يضيف عدوان.
تعزيز بنية الشراء العام
رفض الشركات الثلاث الخضوع لقانون الشراء العام، لا يعود بحسب عدوان إلى وجود ما تخفيه، أو للقيام بصفقات بالتراضي من دون المرور عبر هيئة الشراء العام، إنما "لتباطؤ إجراءات هيئة الشراء العام التي ما زالت تفتقر للعدد والعديد والتجهيزات اللازمة للقيام بعملها"، في حين أن بعض الصفقات يحتاج إلى السرعة والرشاقة.
تحرير القطاعات من الاحتكار وفتحها على المنافسة
ما تشتكي منه الشركات الثلاث وما اشتكت منه البلديات سابقاً لجهة إلزامها ببيروقراطية تخطاها الزمن، ليس مبرراً كافياً. فإبعاد المناقصات عن الرقابة الجدية، والتساهل بعدم إلزامها وضع دفتر شروط عادل وشفاف وغير مفصّل على قياس عارض واحد، يعتبر من أخطر ما يواجه لبنان على صعيد الفساد ونمو الاقتصاد على حد سواء. ويتناقض تالياً مع مبادئ الشراء العام، التي تشجع مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحفز الاقتصاد ومنع الاحتكار.
وإن كان لا بد من عدم إخضاع الكازينو والميدل ايست والريجي لقانون الشراء العام، بصفتها شركات تجارية، فـ"يجب تحويلها إلى شركات خاصة مساهمة لا تملك الدولة أكثرية أسهمها، وفك الاحتكار الذي تتمتع به، وفتح القطاعات التي تعمل بها على المنافسة"، تقول الباحثة في المعهد اللبناني لدراسات السوق ماري لين العلي. "وهو الأمر الذي يخفف عن الدولة من جهة، ويسمح من الجهة الثانية بدخول المزيد من الشركات في مجال الترفيه والطيران والدخان إلى تعزيز المنافسة وخفض الأسعار وتحسين جودة الخدمات".
المشكلة في النفوس لا في النصوص
يقال إنه عندما لا يعود هناك من أمل بمعالجة الأزمات، تكون المشكلة في النفوس لا في النصوص. ولعل هذا ما ينطبق على لبنان حفراً وتنزيلاً. فعلى الرغم من خضوع الاكثرية الساحقة من المؤسسات العامة وكل من ينفق من المال العام لأحكام قانون الشراء العام، فقد استمرت التجاوزات طيلة السنوات الماضية، وجرت محاولات مستميتة للإفلات منه. العديد من البلديات عمدت إلى تقسيم الصفقات وتسديدها بالفاتورة لكي تهرب من إجراء المناقصات. واللجنة المؤقتة لادارة مرفأ بيروت طالبت وزير الأشغال العامة والنقل السابق علي حمية بتوفير الاستقلالية لإدارة المرفأ. ووزارات عديدة كالاتصالات والطاقة حاولت أن تعقد صفقات "شبيهة بالتراضي" لتأمين بعض الخدمات أو شراء الفيول. وبشكل عام فقد سجل خلال العام الأول من نفاذ قانون الشراء العام إجراء 905 عمليات شراء، منها 396 تلزيماً، جرى 176 منها بالتراضي و147 لم يفصح عنها لأسباب سرية.
المقاومة التي يظهرها جسم البلد المريض للإجراءات العلاجية قد تكون ناتجة عن الاستعمال المفرط لمضادات القوانين في معالجة "فيروس" الفساد، في حين أن المعالجة تتطلب استئصال "جراثيم الفساد" بالشدة في التطبيق وإعادة هيكلة القطاع العام "عن بكرة أبيه".
ألا يكفي أن مؤشر مدركات الفساد للعام 2024 أظهر تراجع ترتيب لبنان. فقد حصل لبنان على 22 من 100، متراجعاً نقطتين عن العام السابق.