خمس سنوات مرّت، والانهيار يُدار بالتعاميم من مصرف لبنان. صحيح أنّ التعاميم أتت، وتأتي لملء فراغ العجز عن اتخاذ القرارات على جميع المستويات الاقتصادية، المالية والإصلاحية، انطلاقاً من المقولة الشهيرة لأرسطو "الطبيعة تكره الفراغ"، إلّا أنّها لم تكن الحل، ولن تكونه أبداً. وما التجديد للتعميمين 158 و166 سنة قابلة للتمديد، أخيراً، سوى الدليل على مماطلة السلطتين التشريعية والتنفيذية بشأن وضع خطّة واضحة لـ"توزيع الخسائر"، مسبوقة بـ"كابيتال كونترول" عادل، وإصلاحات بنيوية تتيح الخروج التدريجي من الأزمة كما يفترض المنطق، وكما تظهر تجارب الدول في إدارة أزمات مشابهة. 

جدّد مصرف لبنان العمل في التعميم 158 الذي يتيح سحب ما بين 300 و400 دولار نقداً من الحسابات الأجنبية المكوّنة قبل نهاية تشرين الأول 2019 لمدّة عام ينتهي في تموز 2025. كما عدّل وجدّد العمل في التعميم 166 الذي يتيح سحب 150 دولاراً من الحسابات بالعملة الأجنبية المكوّنة بعد 30 تشرين الأول 2019، إلى نهاية حزيران 2023.  

الإيجابيات في التعديلات 

انطلاقاً من قول "ما لنا، وما علينا" فإنّ التعميمين: 
قضيا نهائياً على "الهيركات" الجائر الذي فرضه التعميم 158 بصيغته القديمة، والتعميم 151. فقد  ألزم الأول المودعين سحب 400 دولار بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي الذي تراوح بين 8000 و15000 ألف ليرة، وحمّل المودعين هيركات نحو 40 في المئة، على سعر صرف السوق الحالي 89500 ليرة. فيما لم تقلّ نسبة الاقتطاع في التعميم 151 عن 85 في المئة. هذا من حيث المضمون. أمّا في الشكل فقد أكّد التعميمان مرّة جديدة أنّهما إجراءان استثنائيان لتسديد الودائع، ريثما تتبلور صيغة الحلّ النهائي.  
أتاحت التعديلات إمكان الاستفادة من التعميم 166، وإن سبق للعميل أن استفاد من التعميم 158. نصّ القرار على أنّه لا يستفيد من التعميم 166 عن أيّ حسابات له بالانفراد أو بالاشتراك أو بالاتحاد، العميل الذي يستفيد من أحكام القرار الأساسي 158، وذلك من أيّ من المصارف طوال الدورة السنوية المعتمدة لتطبيق هذا القرار، والممتدّة من أوّل تموز إلى آخر حزيران من كلّ سنة. ما يعني أنّه في حال توقّف العميل عن الاستفادة من التعميم 158، يمكنه أن يستفيد مباشرة من أحكام التعميم 166.  
الاستفادة من حساب الأولاد القُّصر. 

الناقص في التعديلات 

في المقابل، لم يعدّل التعميم 166 الشرط الأكثر إبهاماً، والذي يتيح للمصارف الاستنسابية المطلقة في تحديد المستفيدين من التعميم 166، وهو الشرط الذي يقول "لا يستفيد من أحكام التعميم 166، الأشخاص الذين تظهر حساباتهم حركة شيكات مصرفية تدلّ على عملية تجارة شيكات بعد 31 تشرين الأول 2019. فخلافاً لبقية الأحكام الواضحة، فإنّ هذا الشرط مبهم واستنسابي إذ لم يحدّد عدد الشيكات ولا قيمتها ولا ظروف وضعها. وهو الأمر الذي أتاح للمصارف خلال الفترة القصيرة الماضية نتيجة تطبيق هذا التعميم، إقصاء عدد كبير من المودعين الذين اضطروا إلى قبض أتعابهم أو مستحقّاتهم بشيكات ووضعها في حساباتهم المصرفية.  

من أين تدفع المصارف أموال التعميمين؟ 

سمح مصرف لبنان للمصارف باستعمال السيولة الخارجية المتوافرة لديها ضمن نسبة 3 في المئة التي فرضها التعميم 154، في آب 2020، من أجل تأمين الأموال اللازمة. واشترط في المقابل إعادة تكوين هذه النسبة في مهلة أقصاها نهاية العام 2025. ويُقدّر أن تصل كلفة التعميمين إلى نحو مليار و400 مليون دولار، تتوزع على قرابة 370 ألف مودع، تتحمّلها المصارف ومصرف لبنان مناصفة. وهذا يعني أنّ المبالغ المتوجبة على المصارف تتجاوز 700 مليون دولار سنوياً. وهو رقم تشتكي منه العديد منها، وبعضها يتخلّف عن سداده كما هي حال مصرف الاعتماد المصرفي، الذي أحالته الهيئة المصرفية العليا إلى القضاء. كذلك تواجه المصارف مشكلة الالتزام بتأمين نسبة الـ 3 في المئة المفروضة بشكل دوري، وهي نسبة يجب أن تؤخذ على أساس مقدار الودائع بالدولار لديها.  


الإدارة في الوقت الضائع مراراً وتكراراً 

التعديلات على التعميمين 158 و166 "أتت في ظلّ عدم تجاوب السلطة السياسية بشأن تحديد سقف للسحوبات من الحسابات المصرفية بالعملات الأجنبية، على سعر صرف 89500 ليرة، وهو السعر الذي التزمه الحاكم بالإنابة سعراً موحّداً أمام المجتمع الدولي"، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. "ونظراً إلى الانعكاسات السلبية التي ستترتب على المودّعين في ظلّ عدم تحديد سقوف السّحب، اتجه المركزي إلى تعديل التعاميم لإتاحة المجال لأكبر عدد ممكن منهم الاستفادة من السحوبات النقدية". وعلى الرّغم من كون هذا الإجراء ترقيعياً وليس حلاًّ شاملاً، فإنّه "أحسن المتوفّر في الوقت الراهن"، من وجهة نظر فحيلي. "وذلك ما دام الحاكم بالإنابة مصرّاً على عدم أخذه القرار بتحديد سقوف السحب من الحسابات المصرفية على سعر السوق الذي ثبّته، وتهرّب السلطة السياسية من مسؤوليتها واستمرارها في التفويض إلى الحاكم بالإنابة مهمّة إدارة المشهد النقدي،  كما فعلت بالضبط إبان حقبة الحاكم السابق رياض سلامة". وانطلاقاً من هذه المشهدية المعقّدة "لم يُحدث الحاكم بالإنابة وسيم منصوري تغييرات إستراتيجية في السياسة النقدية كما كنّا نأمل"، يقول فحيلي. "ربّما لأنه كان شريكاً في القرارات إبان الحقبة السابقة من جهة، ولعدم تعاون السلطة السياسية معه من جهة ثانية. وهو  عبّر في أكثر من محطّة عن طلبه تعاون السلطتين التشريعية والتنفيذية، على أساس أنّ يداً واحدة لا تصفّق".  

برغم التعديلات التي لحقت بالتعميمين، هناك شريحة من المودعين ستبقى ممنوعة من السحب.

معضلة المحرومين من السحب  

برغم التعديلات التي لحقت بالتعميمين، هناك شريحة من المودعين ستبقى ممنوعة من السحب. وفي ظلّ عدم تحديد السقوف ليس لها سوى حل من اثنين: إمّا الاقصاء، وإمّا الخضوع لاستنسابية المصارف. وأكبر دليل على ذلك إنشاء مصرف لبنان مركزية الحسابات لديه ولدى لجنة الرقابة على المصارف، وطلبه من المصارف تحويل أيّ كتاب للاستفادة من أحكام هذه التعاميم إليه، وانتظار موافقته. على أن يتمّ التعويض على المودعين بمفعول رجعي منذ وقت التقدّم بالطلب، إذا تمّت الموافقة عليه. "وهذا يؤكّد أنّ مصرف لبنان قادر على إلزام المصارف بعدم الاستنسابية"، برأي فحيلي. "إلّا أنّ عجزه عن ذلك يتمثّل في عدم ممارسة وظيفة الرقابة على المصارف، والتصرف انطلاقاً من ردّات الفعل قياساً إلى حجم الشكاوى على مصرف محدّد". وبالتالي، شعرت المصارف أنّها "أعطيت مساحة واسعة للتصرّف على مزاجها"، يضيف فحيلي. فتنوّعت طريقة تعاطيها مع المودعين:  
البعض يسمح للمودعين بالسحب على 15 ألف ليرة وضمن سقوف يحدّدها هو.  
والبعض يسمح بالسحب على 25 ألف ليرة على أساس أنّه الرقم الذي طُرح ليكون السعر المستقبلي للسحب من الودائع. والبعض يمتنع عن سحب أي مبلغ. 

عدد المستفيدين لا يعبّر حقيقةً عن التعاميم  

يبقى أنّ الزيادة في أعداد المستفيدين من التعاميم لا تعبّر، برأي فحيلي، عن "حقيقة الاستفادة أو حجمها"." فالعبرة تظل في أرصدة الودائع المستفيدة وليس عددها. ذلك أنّ الكثير من الحسابات المدرجة في خانة المستفيدة من التعميم 166 مصفّرة في الحقيقة. وتحتفظ المصارف بهذه الحسابات لتقديمها يوماً ما إلى مصرف لبنان زاعمةً أنّها تملك أعداداً كبيرة من الحسابات التي تستفيد من التعميم، من دون أن يتقدم كثيرون للاستفادة منها".