كما يقال إنّ "قرش الفقير بألف" للدلالة على المصاريف الكبيرة التي يتكبّدها بالتقسيط، والتي تفوق قيمة المنتج الأصلي العالي الثمن، نتيجة شرائه السلع الرخيصة مراراً وتكراراً، فإنّ قرارات الإدارتين التشريعية والضريبية، بـ "مليون". فالتأخّر في سنّ القوانين، وانتظار سنوات لحماية الملكين العام والخاص، لا يفوّتان فرصة الاستفادة من إيرادات مالية وافرة فحسب، إنّما يعرّض القرارات للطعن، أو لعدم تطبيقها في أحسن الأحوال. وهذا ما ينطبق "حفراً وتنزيلاً" على القرار القاضي بفرض ضريبة على الأرباح المحقّقة من منصّة صيرفة.

بعد أكثر من أربعة أشهر على صدور موازنة 2024، التي أقرّت بإخضاع الأرباح التي نتجت من عمليات صيرفة لضريبة استثنائية، وضعت وزارة المال الآلية التطبيقية. إذ أصدرت في الرابع من الشهر الجاري القرار الرقم 647/1، استناداً إلى المادة الرقم 93 من قانون الموازنة اللبنانية لعام 2024 (قانون 324). ونصّ القرار على فرض ضريبة على الأرباح المحقّقة من المعاملات على منصّة صيرفة للفترة بين 16 كانون الأول 2021 ومطلع أيلول 2023، وبنسبة 17 في المئة.

أرباح صيرفة الهائلة

الغاية من الضريبة يبرّرها تحوّل صيرفة من منصّة هدفت إلى التدخّل في السوق لضبط سعر الصرف، وتحسين القدرة الشرائية لموظّفي القطاع العام من خلال تحويل رواتبهم إلى الدولار على سعر صرف أدنى من سعر السوق، إلى منصّة للمرابحة وتحقيق أرباح هائلة. فقد بيّنت دراسة علمية لفريق الأبحاث الاقتصادية في "بلوم بنك" إنّ حجم الأرباح الإجمالي الذي حقّقه الأفراد الطبيعيون والشركات من التداول على منصّة صيرفة، بلغ 3 مليارات و226 مليون دولار، في أقلّ من عامين. وقد نتجت هذه الأرباح من عمليات تداول بقيمة 24 ملياراً و723 مليون دولار.

ومن باب التذكير، فإنّ كلّ من يملك حساباً مصرفياً كان بإمكانه خلال العام 2022، (حين فتح المصرف المركزي شراء الدولارات عبر المنصّة مقابل ليرات نقدية من دون حدود أو سقوف)، حمل ما يستطيع من الليرات إلى المصرف لتبديلها بالدولار على سعر صرف أعلى وتحقيق أرباح باهظة. ومشهد "كراتين" الليرات المكدّسة في المصارف، والمتطايرة من "الموتسيكلات" على أوتوستراد الدورة ما زال ماثلاً أمام أعيننا. ولم ينفع تحديد سقف حدّه الأقصى 100 مليون ليرة للأفراد ابتداء من كانون الثاني 2023 بتخفيض استغلال صيرفة، وتحقيق المزيد من الأرباح. إذ وفقاً لقاعدة بيانات بنك BLOMInvest فإنّ قيمة التداول على صيرفة والأرباح المحقّقة استناداً إلى متوسط ​​سعر الصرف اليومي في السوق الموازية ناقص سعر الصيرفة، بلغت في الأشهر السبعة الأولى من العام الماضي 12 ملياراً و737 مليون دولار، ووصلت أرباحها إلى مليار و469 مليون دولار. وذلك مقارنة بحجم تداول بلغ 11 ملياراً و856 مليون دولار في العام 2022 وقُدّرت الأرباح بمليار و735 مليون دولار.

مفاعيل الضريبة على صيرفة

بالعودة إلى الأرباح المحقّقة والمقدّرة كما ذكرنا بـ 3226 مليون دولار، فإنّ فرض ضريبة بنسبة 17 في المئة يؤمّن عائداً بقيمة 548.5 مليون دولار، أي أكثر من نصف مليار. إلّا أنّ قرار "المالية" يستثني فئة الأشخاص الذين لم يقوموا بعمليات على المنصة تتجاوز 15 ألف دولار، وهي المعاملات التي كان من الممكن أن يقوم بها موظفو القطاع العام على مدار 20 شهراً. و"نظراً لعدد الموظفين العموميين المقدّر بـ 340 ألفاً، سيبلغ إجمالي الإعفاء 5100 مليون دولار (5 مليارات و100 مليون دولار)، بحسب بلوم أنفست. "وعلى هذا النحو، وباستخدام التقريبات الخطّية، ستكون الأرباح المعفاة 666 مليون دولار أميركي. وبالتالي، فإنّ صافي الأرباح المحقّقة ستكون 2560 مليون دولار أميركي، وصافي الضرائب التي سيتمّ تحصيلها سيكون 435.2 مليون دولار أميركي وهذا المبلغ ليس بصغير أيضاً.

هذه الضريبة وضعت كي لا تطبق عن سابق إصرار وتصميم.

الضريبة غير دستورية

السؤال الأساسي، هل تعتبر هذه الضريبة دستورية؟ رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان وصفها بـ "الهرطقة الدستورية"، وإن كان لا بد من تحصيل عائداتها فلنسمِّها "عقوبة أو غرامة". ومن الوجهة القانونية أيضاً يرى الخبراء أنّ "هذه الضريبة لا تخالف أحكام عدم جواز ضرائب بمفعول رجعي فحسب، إنّما أيضاً الإخلال بمبدأ سنوية الضريبة، وازدواجيتها. فمن دفع ضريبته سيعود ويدفع ضريبة على الأرباح".

هذا في الشقّ القانوني أمّا في الشقّ العملي فقد رفضت جمعية المصارف تصريح المصارف عن العمليات المحقّقة لكونها تخالف مبدأ السرّية المصرفية. وقد وجهت "الجمعية" بالفعل كتاباً إلى وزير المال، أشارت فيه إلى أنّ المادة الرقم 23 من القانون الرقم 44 (قانون الإجراءات الضريبيّة) تنصّ على أنّ "آلية الطلب من المصارف التجاريّة العاملة في لبنان تزويد بيانات خاضعة لقانون السريّة المصرفيّة، يجب أن تُحدّد بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، وهو ما لم يحدث بعد. الأمر الذي يعرّض المصارف للملاحقات القضائيّة، إذا سلّمت معلومات كهذه من دون مرسوم حكومي.

أحسن الظنّ أنّ النوّاب، ومن خلفهم وزارة المال، سنّوا ضريبة معقّدة وصعبة التطبيق. وإذا أردنا أن "نحمّل ضميرنا"، ثقل سوء الظنّ، فإنّ هذه الضريبة وضعت كي لا تطبق عن سابق إصرار وتصميم. فالهدف بالنسبة إلى المنظومة لم يكن زيادة إيرادات الدولة وتحقيق الصّالح العام والعدالة بين المواطنين، إنّما إدارة الملفات بشعبوية تظهر بالشكل أنّها تدافع عن الماليْن العام والخاص، وهي لا تهدف في الحقيقة إلّا إلى الذود عن الكارتالات والمتعدّين على الحقّين العام والخاص. وهكذا تصبح الضريبة على صيرفة كـ "ضربة السيف في الماء"، فلا تحفر حدّاً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها.