منذ إطلاقه الدورة الأولى للتراخيص لاستكشاف النفط والغاز في مياهه البحرية في شباط 2017، إلى إقفال الدورة الثالثة في 2 تموز 2024، والأمور تزداد تعقيداً في لبنان على كلّ المستويات. ما بين التاريخين انتهت ولاية هيئة إدارة قطاع البترول، وحدث الانهيار الاقتصادي، واجتاح فيروس كورونا المعمورة، وانفجر المرفأ، وساد الفراغ الرئاسي، ووقعت الحرب مع العدو الإسرائيلي. وأسوأ من ذلك كلّه أنّ النفط لم يظهر بعد التنقيب في البلوكين 4 و9 اللذين فاز بهما في الدورة الأولى للتراخيص كونسورتيوم توتال، وايني، ونوفوتاك الروسية، قبل أن تحلّ مكان الأخيرة قطر للطاقة. وعلق البلوك 8 والبلوك 10 في منطقة ضبابية مجهولة المصير في الدورة الثانية للتراخيص، التي أقفلت في 2 تشرين الأول 2023. ولم يتقدّم أيّ عارض للدورة الثالثة للتراخيص التي ستُقفل بعد أيام قليلة.

إذاً، في الثاني من تموز المقبل، تنتهي مهلة تقدّم الشركات العالمية لاستكشاف النفط والغاز في تسع رقع بحرية، من أصل عشر ، باستثناء الرقعة الرقم 9 فحسب. وإلى اليوم، أي قبل سبعة أيام على انتهاء الموعد الرسمي، لم تبدِ أيّ شركة من الغرب أو الشرق، كبيرة أم صغيرة، اهتماماً بالقدوم إلى شرق المتوسط لاستكشاف ما قد تحويه هذه البقعة "التّعِسة"، من خيرات تشكّل استثماراً ناجحاً للشركات، وبارقة أمل للبنان واللبنانيين.

فقدان الاستقرار الأمني

إحجام الشركات عن المشاركة يعود بشكل أساسي إلى "فقدان الاستقرارين الأمني والسياسي في لبنان"، بحسب أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في شؤون الطاقة الدكتور شربل سكاف. "فالوضع المتفجّر في شرق المتوسط ينعكس سلباً على التنقيب عن النفط في بحر لبنان. إذ من غير المنطقي أن تتقدم الشركات بعروض الاستكشاف في ظلّ استمرار حرب غزة، وتصاعد احتمالات توسّع الحرب إلى لبنان".

دورات التراخيص من الأولى إلى الثالثة

بحسب التسلسل الزمني للتواريخ، فإنّ القرار بفتح دورة ثالثة للتراخيص رُفع إلى مقام مجلس الوزراء في أيلول 2023. وقتذاك، كانت الآمال باجتذاب الشركات العالمية للبحث والتنقيب في أكثر من رقعة بحرية، كبيرة جداً لثلاثة أسباب رئيسية:

الأول، وجود جو من الأمن والاستقرار العسكري، خصوصاً بعد توقيع لبنان الترسيم الحدودي البحري، والعمل جدياً على إكمال الترسيم البري.

الثاني، إشاعة أجواء متفائلة جداً عن اكتشاف نفطي محتمل كبير في البلوك الرقم 9 الذي يتوسط البلوكين 8 و10، وكانت توتال قد بدأت حفر بئر استكشافية في آب، أي قبل حوالى الشهر.

الثالث، توقّع تقدّم كونسورتيوم توتال ايني قطر للطاقة على مجموعة من البلوكات في الدورة الثانية للتراخيص التي لم تكن قد أقفلت بعد. خصوصاً إذا استُشعر بوجود مكمن غازي أو نفطي مهم في البلوك الرقم 9 الذي يُحفر فيه.

في تاريخ فتح الدورة الثالثة للتراخيص في كانون الأول 2023 كانت الأمور قد قُلبت رأساً على عقب. إذ كانت الحرب على قطاع غزة وجنوب لبنان قد بدأت في 7 و 8 تشرين الأول، وتوتال أقفلت البئر في البلوك 9، بعدما تبيّن عدم وجود مكمن غازي، ولم تقدم إلى الساعة التقرير الفني عن نتائج الحفر. وانتظر كونسورتيوم توتال ايني قطر للطاقة ربع الساعة الأخيرة للتقدم بطلبي اشتراك للمزايدة على الرقعتين 8 و10، ولم يعمد في ما بعد إلى توقيع عقد الاستكشاف، بعد مطالبة الدولة اللبنانية بتعديل شروط العرض كونه كان مجحفاً. وعادت كلّ الأمور إلى نقطة الصفر. ولم يبق في ميدان الحفر إلّا البلوك الرقم 9 المعروف بحقل قانا، واستكمال الحفر يخضع لاتفاقية EPA الموقّعة بين الدولة اللبنانية والكونسورتيوم المشغل، وهي تخضع لمهل زمنية واضحة. لكن لا يبدو أنّ الائتلاف يستعجل تسريع عمليات الاستكشاف.

تمديد المهل

إزاء هذا المشهد المفتوح على كلّ الاحتمالات، فإنّ التوجه، اليوم، هو لتمديد الدورة الثالثة للتراخيص من أجل الإفساح في المجال أمام عودة الهدوء، وتشجيع الشركات على العودة لاحقاً بعروض جدية"، يقول الدكتور سكاف. "أمّا في حال تقدّم شركتين في المهلة الفاصلة بين اليوم و 2 تموز المقبل، فيتاح للدولة اللبنانية اختيار العرض الأفضل، وإذا تقدم عرض واحد فيحقّ للدولة التفاوض معه لتحسين الشروط".

العودة الصعبة

في المحصلة "لا يمكن الحديث عن عودة التنقيب عن النفط والغاز في ظلّ فقدان الاستقرارين السياسي والأمني"، يشدّد سكاف. مع العلم أنّ المبعوث الأميركي آموس هوكستين كان قد فاتح المسؤولين اللبنانيين في سعي أميركا إلى تسريع ملف التنقيب عن النفط ووضعه على نار حامية، فور التوصل إلى حلّ يفضي إلى الترسيم البري والاتفاق على النقاط الثلاث عشرة المتنازع عليها"، من دون أن يعرف على وجه الدقّة هل تشبه هذه الوعود تلك التي أطلقت عشية الترسيم البحري، ولم تسفر عن دفع قوي في ملف النفط.

بالإضافة إلى الاستقرار الأمني المهم جداً لشركات تستثمر بمئات الملايين من الدولارات في منصّات الحفر والتنقيب والاستخراج، فإنّ الاستقرارين الاقتصادي والقضائي أساسيان بالنسبة نفسها لعمل الشركات والقدرة على اجتذابها، وتحقيق مصلحة لبنان في نهاية المطاف. "إذ ليس من المطلوب جذب شركة واحدة أو كونسورتيوم مؤلّف من عدة شركات فقط، إنما المطلوب أن تكون هناك منافسة قوية على الاستكشاف في لبنان على نحو يوفّر عروضاً أفضل تصبّ في مصلحة الدولة اللبنانية. وليس حصر الشركات المتقدمة بتلك التي تملك مصلحة جيو-سياسية لوجودها في هذه المنطقة من العالم.

اللافت كان عدم إمكانية الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بالدورة الثالثة للتراخيص على موقع هيئة إدارة قطاع البترول. فتحت عنوان "دورات التراخيص", تدرج الهيئة الدورة الثالثة تحت عنوان third licensing round من دون وجود بيانات. وذلك على عكس ما تضمّنته عناوين الدورتين الأولى والثانية من المعلومات مع القرارات المصاحبة. وهذا يخالف مبدأ الإفصاح والشفافية وحقّ الوصول إلى المعلومات.

في جميع الحالات، فإنّ الملف النفطي الذي كان يجب أن يطلق قبل أكثر من 10 سنوات، ما زال يراوح في النقطة الصفر من دون أيّ تقدم جدّي. وإذا كان من السهل إلقاء اللوم على جهات خارجية، واللحاق بنظرية المؤامرة، "فإنّنا لم نصنع خلال السنوات الطوال بلداً جاذباً للاستثمار"، يقول سكاف، "وما زلنا نفتقد الحوكمة الرشيدة، ووجود بنية تحمي الاستثمارات سواء كان بالقضاء أو الأمن أو النقد، أو العلاقات مع المصارف، وكفّ تدخّل السياسيين وأصحاب النفوذ في أعمال الشركات... وغيرها الكثير من المعوقات التي عجزنا عن تذليلها".