تعِدُ "الدولة" كلّ عام بدعم مزارعي القمح انطلاقاً من حماية الأمن الغذائي للمواطنين. بيد أنّ الجهود الخطابية التي يبذلها المسؤولون مع بدء موسم الزرع بـ"تشارين"، تبدّدها حرارة الحصاد في حزيران. وفي الوقت الذي تكون فيه السنابل الصفر تتألّق في السهول، معانقةً "قرص السماء"، تأخذ الالتزامات الرسمية في "الذبول" تدريجياً، حتّى تضمحل كلّياً بعد ستة أشهر. فتنتهي "حبات الحياة" في أكياس الخيش، مرمية في المستودعات تنتظر من يشتريها قبل أن تتحول علفاً للحيوانات.

قصة زراعة القمح التي تتكرر سنوياً، متفوّقة برتابتها على قصّة "إبريق الزيت"، لم تشذّ عن القاعدة هذا العام. إذ ذهبت "الشعارات التي أطلقتها وزارة الزراعة عند بداية موسم الزرع لاستهلاك الانتاج محلياً، أدراج الرياح"، بحسب رئيس تجمّع مزارعي البقاع إبراهيم الترشيشي، "ومُنع المزارعون من بيع المحصول إلى الخارج عبر التصدير".

القمح ضرورة لإتمام الدورة الزراعية

السؤال الأول الذي يتبادر إلى الأذهان هو: لماذا يستمرّ المزارعون في زراعة القمح، وهم يعرفون أنّ الدولة لا تفي بوعودها وأبواب التصدير مقفلة، والتصريف المحلّي شبه مستحيل والخسائر المادّية محتومة؟

يجيب الترشيشي أنّ "زراعة القمح ضرورة لإكمال ما يعرف بـ"الدورة الزراعية". والمزارع مجبر على زراعة هذا الصنف ربحَ أم خسر، من أجل إراحة الأرض، أو ما يعرف تقنياً بـ "تناوب محاصيل مختلفة على قطعة أرض واحدة، لضمان المحافظة على انتاجيتها المرتفعة". فتُزرع السهول المخصّصة للزراعات الصيفية كالبطاطا والخضار وغيرهما من الأصناف، بالقمح مرّة كلّ عامين. وتضمن هذه الآلية تعرّض الأرض لأشعّة الشمس وحرارتها المرتفعة، وخلوّها من الأمراض الفطرية. الأمر الذي يحسّن جودة بقية الأصناف التي يعتمد عليها المزارع في معيشته.

الخسائر ليست قدراً محتوماً

الحاجة الملحّة إلى زراعة القمح بين المواسم لا تعني بالضرورة تحمّل المزارعين خسائر فادحة. ليس لكون تجنّب الخسائر ممكناً فحسب، إنّما لأنّ الطلب على القمح يفوق العرض المحلّي بـ90 في المئة. ومن شأن إدارة هذا الطلب بكفاءة عالية أن يؤدّي إلى زيادة العرض وتحسين الأسعار. فلبنان يستهلك سنوياً قرابة 650 ألف طن من القمح، 10 في المئة منه منتج محلياً فحسب. علماً بأنّ المساحات المزروعة لا تتجاوز 125 ألف دونم من الأراضي موزّعة على الشكل التالي: 5 في المئة في سهل عكار شمالاً، و5 في المئة في سهل مرجعيون جنوباً، و90 في المئة في سهل البقاع من شماله إلى جنوبه، مروراً بوسطه. وينتج الدونم الواحد حوالى 500 كيلوغرام من القمح. وهذا يعني أنّ مجمل الإنتاج اللبناني لا يتجاوز سنوياً 63 ألف طن.

يعاني المزارعون اللبنانيون من تراجع العائد على الدونم الواحد. فإنتاج 500 كيلوغرام من القمح في الدونم، يحقّق عائداً بـ 140 دولاراً فقط. لأنّ طنّ القمح (ألف كيلوغرام) يباع بـ 280 دولاراً. وعليه، كلّما صغرت الحيازات الزراعية تقلّصت العوائد مقارنةً بالتكاليف المرتفعة المتمثّلة في الزراعة والريّ والحصاد والتعليب والحفظ وتفويت الفرصة البديلة من زراعة أصناف أخرى. وهذه هي المشكلة الأولى الجوهرية التي يعانيها مزارعو القمح في لبنان. وهي مشكلة تدفعهم إلى الكفّ عن زراعة القمح عاماً بعد آخر، إمّا من خلال التوقّف عن ضمان الأراضي، الذي يعادل سعر مبيع الطنّ من القمح، أو ترك العمل بالزراعة، أو التوجه إلى نوع آخر من المحاصيل. ويعتاش من زراعة القمح حوالى 3500 مزارع، بحسب طلبات تسليم القمح إلى وزارة الاقتصاد. وهو عدد قليل جداً مقارنةً بأعداد المزارعين بشكل عام، والحاجة إلى القمح بشكل خاص.

أمّا المشكلات العامة التي تواجهها هذه الزراعة فمعظمها ناتج من سوء السياسات العامة، وغياب الرؤية والتخطيط الجيد بشكل عام، وقلة اهتمام المعنيين بشكل خاص. ويفنّد الترشيشي ثلاث مشكلات عامة أساسية، هي:

1- توقّف الدولة عن دعم القمح عبر شرائه من المزارعين بسعر تشجيعي. ماضياً، كان ينال المزارع مساعدة تراوح بين 150 و200 دولار على كلّ طنّ قمح منتج. في حين لم تضع آلية التسلم هذا العام ولم تحدّد سعر الشراء.

2- منع المزارعين من تصدير انتاجهم إلى الخارج. خصوصاً القمح القاسي المطلوب بشكل كبير لصنع المعكرونة وغيرها من الأصناف في تركيا والعراق والأردن. ويلزم قرار مجلس الوزراء الصادر في 19 كانون الأول 2023، نيل إجازة تصدير خاصّة من وزارة الاقتصاد لتصدير الانتاج، على أساس أنّ القمح مادة أساسية في الأمن الغذائي. ووزارة الاقتصاد تستنسب في إعطاء الإجازات وتحصرها ببعض المحظيين من التجار. الأمر الذي يقلّص الفوائد بالنسبة إلى المزارعين الذين يكونون قد باعوا انتاجهم بأسعار زهيدة.

3- توقّف المطاحن عن شراء القمح اللبناني، لأنّها ببساطة تستفيد من القمح المدعوم لصناعة الخبز العربي على سعر 1500 ليرة. فيكلّفها الكيلوغرام المدعوم 5000 ليرة حدّاً أقصى، فيما يصل سعر القمح البلدي إلى 30 ألفاً.

انكشاف لبنان غذائياً

إذا لم تؤمّن الدولة الدعم لزراعة القمح، فهي "زراعة خاسرة بالتأكيد"، يقول الترشيشي، وهذا ما يدفع المزارعين إلى البحث عن بدائل أكثر جدوى وربحية. الأمر الذي يقلّص المساحات المزروعة، ويكشف لبنان غذائياً، ويعرّضه لمخاطر سلاسل التوريد والتحكّم السياسي من الخارج، وارتهانه للدول المصدّرة. وقد عاش لبنان هذه الجلجلة إبان الحرب الروسية الأوكرانية وما تركته من أخطار على انقطاع القمح وارتفاع أسعاره عالمياً. وفي الوقت الذي توجهت فيه معظم الدول من بعد هذه الحرب إلى تعزيز زراعة القمح لديها، نستمرّ محلّياً في تجاهل هذه الزراعة المهمّة والإستراتيجية.

القمح وصناعة المعكرونة محلياً

على الرغم من آفاق تطوير انتاج القمح المقفولة بالمعوقات الخاصة والعامة، تبرز ومضة ضوء تمثّلها صناعة المعكرونة الآخذة في التطور محلياً، كمّا ونوعاً. ولكي "تنمو وتتطور هذه العلاقة وفق قواعد واضحة وسليمة، يجب إبرام عقود بين المزارعين والمعامل تضمن شراءها الكمّيات المنتجة في ظل حماية الدولة"، بحسب الترشيشي. فيُحمى الإنتاج الوطني مرحلياً من المنافسة غير المشروعة من الأصناف الخارجية للقمح والمعكرونة على السواء. خصوصاً أنّ دولاً عدة تدعم زراعة القمح وإنتاج المعكرونة التي تبيعها بأسعار "إغراقية" في الدولة التي صُدّر القمح اليها.

يقال في الأمثال الشعبية الشامية "إن كانت هالغزلة غزلتك، حرير رح نلبس"، للإشارة إلى الجهود المهدورة التي توضع في أيّ منتج. وهو ما ينطبق حفراً وتنزيلاً على "ادّعاء" الدولة دعم زراعة القمح ووعدها بتشجيعها، إذ "لسان حال" المستمعين: "وقمح رح ناكل!"