ينتاب كلّ من يتابع التقارير المحلّيّة والدوليّة المتعلّقة بلبنان شعور بالإحباط الممزوج بالاستهجان، من الحالة التي وصلت إليها البلاد. إذ لا شبيه لوضعنا الحالي إلّا ذاك الإعرابي الذي يتذمّر من العطش وسط الصحراء، وهو جالس فوق بئر من الماء الزلال. وليس المقصود بالثروة غير المستغلة، النفط والغاز في أعماق البحار، كما قد يخيّل للبعض سريعاً، إنّما الحوكمة الرشيدة. فعلى عكس الإعرابي القاصر عن مدّ "حبل الحياة" لاتقاء الهلاك، فإنّ على لبنان قطع "حبل سوء الإدارة" لتجنّب الخراب.

بينما يبحث لبنان بـ "سراج" الضرائب و"فتيلة" الاستقراض ونيل المساعدات من الدول المانحة عن فُتات الدولارات لرفد خزينته، يفوّت كلّ يوم على نفسه فرصة الحصول على حوالى 50.7 مليون دولار تعادل سنوياً أكثر من 18 مليار دولار. فمن أين أتينا بالأرقام؟

تشير تقارير محلّيّة ودوليّة "مبعثرة" إلى أنّ لبنان يعاني ثلاث معضلات أساسية تكبّده سنوياً خسائر بمليارات الدولارات، وهي:

1- الفساد، بـ "كلفة سنوية تناهز 5 مليارات دولار"، بحسب تصريح لوزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية ​عناية عز الدين في العام 2018 من مجلس النواب. "الأمر الذي يتسبب بخسارة 45 في المئة تقريباً من مداخيل الدولة، و27 في المئة من ​الموازنة، ​و10 في المئة من إجمالي الناتج الوطني. ناهيك بالكلفة غير المباشرة التي قد تتضاعف فيها نسبة الخسائر، وهذا ما يؤثّر بطبيعة الحال في قدرة الدولة على تأمين الحقوق الأساسية للمواطنين". واللافت أنّ الرقم الذي تحدثت عنه الوزيرة عز الدين كان يقارب 1.5 مليار دولار في العام 2001، ويمثّل أيضاً 10 في المئة من الناتج حينذاك. وقد ارتفع في العام 2011 أي بعد قرابة 10 سنوات إلى 4 مليارات دولار. يدلّ ذلك على أنّ نسبة الفساد من الناتج المحلي الإجمالي كانت ثابتة عند حدود 10 في المئة على أقلّ تقدير منذ عقدين من الزمن تقريباً. مع ترجيح أنّ هذه الكلفة قد زادت بنسب أكبر بكثير بعد الانهيار نتيجة مجموعة كبيرة من العوامل، في مقدّمتها سواد الاقتصاد النقدي، وازدياد معدّلات التهرّب الضريبي، وعدم تصريح نحو نصف الشركات عن أرقامها الفعلية وأعداد موظّفيها. ويكفي في هذه البلبلة أن نستذكر منصّة صيرفة التي قدّر البنك الدولي أنّها أهدرت نحو 2.5 مليون دولار في أقلّ من عامين من أموال المودعين.

2- العنف، بـ "كلفة سنوية تُقدّر بـ 8.36 مليار دولار، وتشكّل 55.6 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي"، بحسب معهد الاقتصاد والسلام العالمي (IEP)، إذ أظهرت النسخة الثامنة عشرة من مؤشر السلام العالمي الذي يصنّف 163 دولة ومنطقة مستقلّة بناء على مستوى سلميّتها أنّ لبنان احتلّ المرتبة 134 عالمياً والـ 13 شرق أوسطياً على مؤشر السلام العالمي Global Peace Index 2024، وبعلامة 2.693 وتقييم منخفض لحالة السلام. يتمّ احتساب المؤشّر بناءً على 23 دليلاً كمّياً ونوعياً، ويقيّم حالة السلام وفق ثلاث ركائز رئيسية، هي مستوى السلامة والأمن المجتمعيّين، ومدى الصراع الداخلي والدولي المستمر، ودرجة العسكرة.

3- النزوح السوري، بكلفة تصل إلى 5.16 مليار دولار. إذ بيّن تقرير "الأثر الاقتصادي والاجتماعي للصراع السوري على لبنان: تحديث آخر عشر سنوات"، الصادر عن البنك الدولي أنّ لبنان تكبّد ما بين العامين 2011 و2017، أي خلال 6 سنوات فقط، نحو 31 مليار دولار من إضاعة الفرص.

نستذكر منصّة صيرفة التي قدّر البنك الدولي أنّها أهدرت نحو 2.5 مليون دولار في أقلّ من عامين من أموال المودعين.

الخسائر فادحة

بناء على ما تقدّم، يخسر لبنان سنوياً قرابة 18.5 مليار دولار، تعادل تقريباً 100 في المئة من ناتجه المحلّي الإجمالي، بحسب آخر التقديرات للبنك الدولي. وهذا الرقم ليس تفصيلاً بسيطاً، بل هو دليل فاضح على تحوّل لبنان من دولة إلى إحدى "الدول المارقة"، أو بمعنى آخر الدول الخارجة عن القانون، بحسب المفهوم العالمي للمصطلح. وعلى الرّغم من قسوة التعبير، الذي توقفت الدول عن استخدامه، وفي مقدّمتها مُطلقته، الولايات المتحدة الاميركية، فإنّ الرقم الذي بين أيدينا أقسى بما لا يقاس. وهو سيترك تداعياته السلبية على موقع لبنان على الخريطة المالية العالمية، وكلفة التحويلات، وتراجع الاستثمارات، والقدرة على الاقتراض، والفشل في بناء الشراكات.

خسارة الفرصة البديلة

اقتصادياً، يُطلق على هذا الواقع تعبير "كلفة الفرصة الضائعة - opportunity cost"، بحسب مدير مركز المشرق للشؤون الإستراتيجية، الخبير الاقتصادي الدكتور سامي نادر، "وعليه، لا تمثّل هذه الخسارة الكلفة المحاسبية بالمعنى الضيّق للكلمة إنّما الكلفة الاقتصادية الحقيقية التي يتحمّلها البلد. وهي تدلّ بشكل واضح وصريح على حجم الفرص التي يفوّتها الاقتصاد، وإهدار إمكاناته، التي تمثّل قرابة 100 من ناتجه الرسمي الراهن". هذا على المستوى العام، أو الماكرو - اقتصادي، أمّا على المستوى الخاص، فهي تمثّل التحدّي الأكبر الذي يواجه المستثمرين. "فهذه الكلفة الباهظة يأخذها المستثمر في الاعتبار عند إعداد خطّة العمل ودراسات الجدوى الاقتصادية لمشروعه"، برأي نادر. "هذا ما يعني فعلياً أنّ كلفة الاستثمار في لبنان نتيجة هذا الواقع أعلى بكثير من أيّ دولة أخرى، ومردوده أقلّ". وعليه، يحجم المستثمرون الذين يبنون دراستهم الاقتصادية على السنت الواحد عن القدوم إلى لبنان، ويتوجهون إلى بلدان أخرى.

غنيّ عن القول إنّ توفير مبلغ 18.5 مليار دولار يماثل كسبه. الأمر الذي يسمح للدولة بتخفيض الضرائب والرسوم، ولا سيما تلك التي أضافتها أخيراً إلى الكهرباء والمياه والاتصالات والمعاملات. ويمكّنها تالياً من تخفيض الضرائب غير المباشرة، فيحسّن ذلك من واقع المداخيل تلقائياً من دون اضطرار إلى طبع الأموال أو زيادة الأعباء، ويحدّ من انهيار القدرة الشرائية ويعزّز الاستثمارات التي تنعكس طلباً على اليد العاملة. فتتراجع البطالة وتتحقّق مصلحة الجميع.