في خضم الحرب الأوكرانية التي تمرّ بعامها الثالث، وفي مواجهة الدعم الغربي المتصاعد لكييف، يمضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في توثيق العلاقات الإستراتيجية مع الصين وإيران، وإحياء تحالفات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية وكوبا.

زيارة بوتين لبيونغ يانغ الثلاثاء والأربعاء أملتها ظروف النزاع الأوكراني والعداء المشترك للغرب عموماً وللولايات المتحدة تحديداً. وكما فتح الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون مستودعاته من القذائف المدفعية والصواريخ القصيرة المدى لروسيا كي تستخدمها على الجبهة الأوكرانية، أبدى الكرملين استعداداً لتزويد جارته بالتكنولوجيا من أجل تطوير الصواريخ الباليستية وتلك الخاصة بوضع أقمار اصطناعية في الفضاء.

بوتين يحتاج إلى كيم على الأرض، وكيم يحتاج إلى بوتين في الفضاء. معادلة تقلق الخصوم وحتى الأصدقاء. لكنّ واشنطن كانت البادئة عندما فرضت على حليفتها، كوريا الجنوبية، إرسال قذائف مدفعية من عيار 155 ملليمتراً إلى أوكرانيا المتعطّشة إلى الذخائر، فضلاً عن رفدها بالمساعدات الاقتصادية التي تُوّجت بزيارة الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول الشهر الماضي لكييف. والرغبة الأميركية هي ذاتها التي حرّكت اليابان لإرسال مساعدات عسكرية واقتصادية إلى أوكرانيا.

بوتين يحتاج إلى كيم على الأرض، وكيم يحتاج إلى بوتين في الفضاء. معادلة تقلق الخصوم وحتى الأصدقاء.

إذن، والحال كذلك، لماذا لا يردّ بوتين على الدعم الكوري الجنوبي والياباني لأوكرانيا وعلى واشنطن أيضاً، بانفتاح متجدّد على كوريا الشمالية، خصم سيول وطوكيو والولايات المتحدة. قبل أيام، تعهّد بوتين علناً إرسال أسلحة إلى كلّ الدول التي تقاتل أميركا، رداً على قرار واشنطن السماح للجيش الأوكراني باستخدام أسلحة أميركية في ضرب أهداف في الداخل الروسي في منطقة خاركيف، وردّاً على الاتفاق الأمني الأميركي-الأوكراني الذي وقعه الرئيس جو بايدن مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على هامش احتفالات الحلفاء بإحياء الذكرى الـ80 لإنزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية.

أول زيارة قام بها بوتين لبيونغ يانغ كانت عام 2000، ليصير أول رئيس روسي يزور كوريا الشمالية بعد انتهاء الحرب الباردة. لكنّ العلاقات الروسية-الكورية الشمالية شهدت بعد ذلك انحداراً في ظلّ مواصلة بيونغ يانغ برنامجاً للتسلّح النووي ولتطوير قدراتها الصاروخية، ولم تستخدم موسكو الفيتو ضدّ العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على كوريا الشمالية التي كانت تزداد عزلة.

بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية تغيّرت الأمور، وبدأت موسكو في إعادة ترتيب علاقاتها الدولية وفقاً لما تمليه عليها شروط تأمين مواصلة الحرب. وقبل تسعة أشهر، استقبلت روسيا كيم في زيارة مطوّلة شملت جولات على مصانع الأسلحة الروسية وعلى مركز فوستوتشيتي للصناعات الفضائية في الشرق الأقصى الروسي. وشرب كيم هناك نخب "الكفاح المقدس" ضد "زمرة الشر" في الغرب. ويعدّ هذا المركز قبلة نظر الزعيم الكوري الشمالي الذي يطمح إلى مراقبة خصومه من الفضاء، الأمر الذي أخفق في انجازه بقدراته الذاتية وحدها. وآخر تجربة كورية شمالية في هذا المجال أجريت الشهر الماضي، وكان مآلها الفشل.

وفي أيار الماضي، استخدمت روسيا الفيتو ضد مشروع قرار أميركي لتجديد عمل لجنة الرقابة على تنفيذ العقوبات الأممية على كوريا الشمالية. وشرعت روسيا في استقبال العمالة الكورية الشمالية خلافاً لقرار للأمم المتحدة اتخذ عام 2019 ويحظر على دول العالم تشغيل عمال من كوريا الشمالية، كي لا تستفيد بيونغ يانغ من موارد بالعملة الصعبة.

وفي مقابل شحن كوريا الشمالية ما تقول الولايات المتحدة إنّه عشرة آلاف مستوعب من القذائف والصواريخ القصيرة المدى إلى روسيا، بدأت موسكو تشحن كميات من النفط تزيد على المسموح به بموجب قرارات الأمم المتحدة لبيونغ يانغ، علاوة على تزويدها بكمّيات كبيرة من الحبوب والمساعدات الغذائية الأخرى، بينما وصلت أفواج أولى من السياح الروس إلى هناك مع بداية العام الجاري عندما رفعت كوريا الشمالية القيود المفروضة على استقبال أجانب بسبب وباء كورونا. وشوهد كيم وابنته أخيراً وهما يستقلان سيارة ليموزين من صناعة روسية، في تحدّ آخر لعقوبات مجلس الأمن التي تحظر تزويد الشمال الكوري بهذا النوع من الرفاهية.

وأحدث توقيع بوتين وكيم على مذكرة لشراكة إستراتيجية شاملة، نقلة نوعية في العلاقات بين الجانبين، جعلت الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي يحذّر من انعكاس هذا التطوّر على "أمن شبه الجزيرة الكورية".

وانتهز وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا زيارة بوتين لكوريا الشمالية كي يدعو المجتمع الدولي إلى مواجهة العلاقة الوثيقة التي تربط بوتين وكيم، عبر زيادة إمدادات الأسلحة إلى كييف.

التقارب الروسي-الكوري الشمالي، إلى القلق الذي يسببه في سيول وطوكيو وواشنطن، تنظر إليه الصين عن كثب، ويهمّ بكين أن لا يتجاوز هذا التقارب حدوداً تستفزّ الصين، كمثل تزويد روسيا لكوريا الشمالية بتقنيات الصواريخ البعيدة المدى، علماً أنّ الصين كانت في أحلك الظروف بوابة بيونغ يانغ إلى العالم.

وقبل وصول بوتين بساعات إلى بيونغ يانغ، توتّرت الحدود بين الكوريّتين بعدما عبر عشرات الجنود الكوريين الشماليين لفترة وجيزة خط الهدنة، بينما أصيب في الوقت نفسه عدد من الكوريين الشماليين بجروح في انفجار لغم أرضي في حادث آخر. هل كان ذلك من قبيل المصادفة أم أنّه رسالة من الشمال إلى الجنوب في توقيت غني بالدلالات؟