تدفع الأزمات النقدية إلى تراجع سعر صرف العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، فتتراجع الأسعار ويتحوّل البلد مقصداً للسيّاح، خصوصاً إذا كان يتمتّع بالمقوّمات. في المقابل، يؤدّي ضعف العملة المحلّية إلى انخفاض القدرة الشرائية على البضائع والخدمات المقوّمة بالعملات الصعبة، فتتراجع السياحة الصادرة، ويتراجع معها نزيف العملات الأجنبية من البلد، فيتحسّن ميزان المدفوعات. هذه القاعدة البديهية لم تتحقّق في لبنان رغم الانهيار. بل على العكس، فَقَد لبنان السياحة الواردة في العام 2024، وشهدت الصادرات معدّلات مرتفعة تكاد تقارب تلك المحقّقة قبل العام 2019.

عوامل أربعة "قديمة جديدة" أرخت بثقلها على موسم صيف 2024، وحدّت من إمكان عودة لبنان إلى خريطة السياحة العالمية:

-التخوّف الأمني، "خصوصاً خلال الأسبوعين المنصرمين، اللذين ترافقا مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية في جنوب لبنان وازدياد التهديدات الإسرائيلية"، بحسب نقيب أصحاب مكاتب السياحة والسفر في لبنان جان عبود. "فأشاعت جواً متشنّجاً أثبط عزيمة الرّاغبين في السفر من لبنان وإليه. وذلك على عكس الفترات السابقة التي شهدت طلباً شبه عادي على السفر". وبالفعل ينقل المعنيون في القطاع إلغاء الكثير من الحجوزات القادمة خصوصاً من الدول الإفريقية حيث تنتشر جالية لبنانية كبيرة. كما أجّل الراغبون في السفر من لبنان رحلاتهم خوفاً من إقفال المطار وعدم تمكّنهم من العودة.

-ارتفاع الأسعار، وعودتها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار. وهذا نتيجة مروحة واسعة من الأسباب، في مقدّمتها تسعير السلع والخدمات بالدولار. وإن كان مثل هذا الإجراء "عادلاً" في بلد يستورد بالعملة الصعبة أكثر من 90 في المئة من حاجاته، ويعاني من كلفة انتاج مرتفعة جداً، فهو يؤثّر على الطلب تأثيراً كبيراً. إذ إنّ كلفة تمضية العائلة يوماً واحداً في أحد المنتجعات السياحية تعادل راتب شهر لموظف من الفئة الأولى، ويفوق ما يمكن أن تقدّمه تركيا كحزمة لمدّة أربعة أيام، مثلاً"، يقول محمود الخطيب، وهو صاحب مكتب للسياحة والسفر. وهذا ليس شعاراً شعبوياً، كما يعتقد البعض، إنّما حقيقة مرة. فكلفة الدخول إلى المسابح غير الشعبية تصل إلى 50 دولاراً، فيما تباع زجاجة المياه بـ 5 دولارات. ولنفترض أنّ عائلة مؤلّفة من 5 أشخاص لم تستهلك إلّا المياه، فإنّ كلفة تمضية يوم على المسبح ستصل إلى 300 دولار.

-الخشية من التسمّم نتيجة فساد المأكولات، إذ تطالعنا يومياً حملات ضبط غشّ وفساد وعدم مطابقة للمواصفات في أكثر السلع استهلاكاً من قِبل السيّاح في المطاعم والفنادق من خبز ولحوم ومشروبات وسجائر.

-ارتفاع أسعار تذاكر السفر بشكل كبير جداً. يراوح سعر التذكرة من الدول الأوروبية بين 900 و 1000 دولار على الشخص الواحد للدرجة الاقتصادية. فيما تبدأ من 500 دولار أو حتى أكثر من الوجهات القريبة. وهو ما يدفع العائلات إلى الإحجام عن القدوم إلى لبنان، وتركّز الطلب على الميسورين والطلاب. وما الفورة التي نشهدها اليوم في المطار مثلاً، إلّا انعكاساً لانتهاء المواسم الدراسية في الخارج وبدء عودة الطلاب لتمضية فترة الصيف في ربوع لبنان. ومن المؤكد أن هذا لا يعتبر شكلاً من أشكال السياحة.

السياحة الصادرة ترتفع

في المقابل، يسجّل أصحاب مكاتب السياحة والسفر طلباً لبنانياً غير مسبوق مقارنةً بالأعوام الثلاثة الماضية للسياحة في الخارج. فيومياً، تخرج على الأقل أربع طائرات "تشارتر"، بسعة لا تقلّ عن 150 شخصاً للطائرة الواحدة، إلى وجهتين محدّدتين هما تركيا وشرم الشيخ، ويرتفع العدد في الكثير من الأيام إلى ست طائرات. مع العلم أنّ التركيز راهناً على تركيا بسبب بدء موسم الحر في مصر. وبحساب سريع يتبيّن أنّه يغادر لبنان شهرياً أكثر من عشرين ألف شخص إلى وجهتين سياحيتين فقط، من أصل عشرات الوجهات التي تتضمّن أيضاً قبرص واليونان وجورجيا وأرمينيا والدول الاوروبية والملديف وسيريلانكا... . وإذا افترضنا أنّ معدل إنفاق السائح 1000 دولار يتبيّن أنّ لبنان يخسر شهرياً نحو 20 مليون دولار لمصلحة كلّ من تركيا وشرم الشيخ. وهو ما يسهم في زيادة الطلب على العملة الصعبة من جهة، ويهدّد من جهة أخرى بعودة سعر الصرف إلى الانخفاض، ويقوّض كلّ الإجراءات للمحافظة على استقرار الليرة ولجم التضخّم.

الرزم السياحية في الخارج

ما يستغربه البعض في شأن عودة معدّلات السياحة الصادرة للارتفاع، هو أمر أكثر من طبيعي، ليس لأن الرواتب زادت في القطاعين العام والخاص، إنّما "نظراً لما تقدّمه الدول في الخارج من عروض" يقول الخطيب. "فتركيا مثلاً تقدّم حزمة كاملة من تذكرة السفر والنقل والإقامة في الفندق مع وجبة صباحية، لمدة أربعة أيام، بكلفة 400 دولار. وهي تكاد تقارب ما ينفق في لبنان بيوم واحد في منتجع سياحي". وبرأي الخطيب، فإنّ "هذه الدول لا تعتمد على مردود الفنادق والسفر، بقدر اعتمادها على ما ينفقه السياح في المطاعم والأسواق التجارية، والصيدليات راهناً. إذ يعود اللبنانيون من الخارج محمّلين بالأدوية ذات الصناعة المحلية".

سيناريوهات المرحلة المقبلة

وفي ما خصّ السياحة الواردة هذا الصيف، فهي في مواجهة سيناريوهين بحسب جان عبود:

الأول، تقلّصها نتيجة استمرار الحرب وتوسّعها.

الثاني، توقّف الحرب، إذ من المنتظر حدوث فورة قد تكون مضاعفة عن تلك التي حصلت في العام الماضي.

الدولة دائماً رابحة

سواء كانت السياحة صادرة أم واردة، فإنّ خزينة الدولة تحقّق عائدات كبيرة. "فرسوم السفر جواً وبحراً تشكّل 5.6 في المئة من إيرادات الدولة"، بحسب الدولية للمعلومات، "ومن الملاحظ في مشروع قانون موازنة العام 2024 أنّ الحكومة قدّرت إيرادات رسوم السفر براً وبحراً بـ14,263 مليار ليرة، (حوالى 160 مليون دولار)، وتعتبر هذه النسبة عالية كونها تُسدّد بالدولار وليس بالليرة. وفرض قانون موازنة العام 2024 كما عدّلته لجان المال والموازنة، في المادة 70، الرسوم التالية:

35 دولاراً على كلّ مسافر في الدرجة السياحية.

50 دولاراً على كلّ مسافر في درجة رجال الأعمال.

65 دولاراً على كلّ مسافر في الدرجة الأولى.

100 دولار على كلّ مسافر على متن طائرات أو يخوت خاصة.

بدلاً من أن تصحّح الأزمة الاقتصادية والنقدية الخلل في القطاعات اللبنانية، زادته سوءاً. ولعلّ الواقع السياحي المصاب بانفصام الشخصية، "شيزوفرينيا"، واحد من عشرات القطاعات التي تعاني المشكلة نفسها.