تعيدنا زيارات صندوق النقد التفقّدية للبنان، أو التأنيبية إذا "حمّلنا نوايانا شكوكاً"، بالذاكرة إلى زيارات بيار دوكان الذي ظلّ، بصفة كونه مبعوثاً فرنسياً مكلّفاً متابعة مؤتمر "سيدر"، والمكنّى "تحبباً" بـ "ناظر سيدر"، يجيء لبنان منذ العام 2018 لحثّ المسؤولين على تنفيذ الإصلاحات والحصول على 11 مليار دولار، حتّى غادره "خالي الوفاض" إلى غير رجعة في العام 2021. فحلّ مكانه رئيس بعثة صندوق النقد أرنستوا راميراز ريغو، معتقداً بأنّ "وهرة" الصندوق وضغط الانهيار سيليّنان موقف المسؤولين اللبنانيين من الإصلاحات، ويدفعان بهم إلى تحقيق ما عجز دوكان عن تحقيقه طوال أربع سنوات. وها هي تنقضي مهلة العامين على توقيع الاتفاق المبدئي على صعيد الخبراء، للاستفادة من تسهيل الصندوق المدد بقيمة 3 مليارات دولار، بـ "لمحة بصر"، من دون تنفيذ أيّ من الإصلاحات، أقلّه، بالشكل المطلوب.

حطّ وفد صندوق النقد الدولي برئاسة المسؤول عن الملف اللبناني ارنستو راميراز ريغو للمرّة الأولى، هذا العام، في لبنان، بزيارة استطلاعية لمدّة أربعة أيام تنتهي يوم غد الخميس. لقاءات اليوم الأول شملت رئيسي الحكومة والبرلمان ومصرفيين. وتكرّر على مسامع "الوفد" في أكثر من محطّة مفهوم "قدسية الودائع" ولو بعبارات مختلفة. فبالإضافة إلى إصرار المصارف على مسؤولية الدولة عن الجزء الأكبر من الخسائر في النظام المالي، عاد رئيس مجلس النواب نبيه برّي ليؤكّد أنّ "المدخل لإعادة الثقة بالقطاع المصرفي وبالنظام المالي العام في لبنان هو ضمان إعادة الودائع كاملة إلى أصحابها مهما تطلّب ذلك من وقت". وهذا ما يتنافى مع اعتقاد الصندوق الراسخ باستحالة إعادة الجزء الأكبر من الودائع. كما أصغى وفد الصندوق بدقة لشروح الحكومة حول المعوّقات التي واجهتها خطّة استعادة الانتظام المالي الأخيرة، التي وضعت أساساً بالاتفاق بين الحكومة والمصرف المركزي.

ما الذي تحقّق وما الذي لم يتحقّق في الاتفاق مع صندوق النقد؟

منذ توقيع الاتفاق على مستوى الخبراء بشأن السياسات الاقتصادية مع لبنان للاستفادة من "تسهيل الصندوق الممدّد" لمدة أربع سنوات في نيسان 2022 لم يحقّق لبنان إلّا 3 إصلاحات، وبشكل منقوص، من أصل 13 إصلاحاً أساسياً. وأبرز ما تحقّق:

- إقرار قانون رفع السرّية المصرفية في تشرين الأول 2022.

- توحيد سعر الصرف منذ آذار 2023.

- إقرار موازنة متوازنة من الناحية النظرية.

في المقابل، لم يحقّق لبنان الشروط الأساسية الثلاثة الكبيرة المتعلقة بـ:

* موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية إعادة هيكلة المصارف التي تقرّ مقدّماً بالخسائر الكبيرة التي تكبّدها القطاع وتعالجها، مع حماية صغار المودعين والحدّ من الاستعانة بالموارد العامة. وهو فعلياً ما يعرف بتراتبية المسؤوليات والخسائر، بحيث يتحمّل المودعون، وتالياً المصارف، الخسائر الأكبر من الفجوة النقدية المقدّرة بـ 72 مليار دولار، مع تحييد أصول الدولة والمصرف المركزي. وهذه هي نقطة الخلاف المركزية التي تُفشل أيّ حلّ لكونها تؤدّي إلى إفلاس غالبية المصارف وخروجها من السوق.

* موافقة مجلس الوزراء على إستراتيجية متوسّطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين، هي أمر ضروري لإعادة الديون إلى مستوى يمكن الاستمرار في تحمّله، وإرساء صدقيّة السياسات الاقتصادية، واستيلاد حيّز مالي للإنفاق الإضافي على البنود الاجتماعية وإعادة الإعمار. علماً أن لبنان لم يبادر إلى التفاوض مع الدائنين الأجانب الذين يحملون حوالى 31 مليار دولار من دون احتساب الفوائد والمتأخّرات، من سندات اليوروبوندز. وتهدّد سياسات الحكومة والمصرف المركزي من حيث عدم المبادرة إلى التفاوض قبل مضي 5 سنوات على التخلّف عن السداد وسقوط مهلة المطالبة بالفوائد ومراكمة دين بالعملة الأجنبية على الدولة بفتح دعاوى في الخارج على لبنان ومصادرة أصوله ولا سيما التابعة إلى مصرف لبنان.

* إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما قطاع الطاقة، لتقديم خدمات ذات جودة دون استنزاف الموارد العامّة. وهذا ما زالت الدولة تهمله برغم التردّي الحاصل في مختلف الميادين والإدارات.

فعليّاً لم يتحقّق شيء من الإصلاحات

بقراءة معمقة، يمكن القول إنّ لبنان لم يحقّق أيّ إصلاح. فقانون تعديل السرّية المصرفيّة منقوص، ولا يراعي متطلّبات المحاسبة والملاحقة. وعجز الموازنة "مصفّر" نظرياً، من خلال تجميد أو ترحيل النفقات الضرورية، مقابل عدم إصلاح بنية القطاع العام والإيرادات. أمّا بالنّسبة إلى سعر الصرف، فهو "مثبت عند 89500 ليرة، وليس موحّداً كما هو مفترض"، بحسب الخبير الاقتصادي البروفيسور بيار خوري. "وما زال هناك سعر صرف 15 ألف ليرة في تعاملات البنوك مع المودعين. والسعر المعتمد على أنّه سعر السوق يجافي السعر الحقيقي، وذلك بغضّ النظر عمّ إذا كان أعلى أم أدنى. خصوصاً أنّه يترافق مع التوقّف عن طبع الليرة، والإقراض وإعطاء الفوائد".

العقدة سياسية

العقدة الأساسية التي تكمن في الاتفاق بين لبنان وصندوق النّقد تتمثّل في "هيكلة القطاع المصرفي"، من وجهة نظر خوري. "وهي العملية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة السياسية، التي تعقّدت أكثر فأكثر بعد حرب غزّة. فانتقلنا من وضع داخلي صعب عنوانه البارز تعطيل انتخاب الرئيس، إلى وضع إقليمي بالغ الضبابية وغير مناسب لإنتاج رئيس بسبب عدم الوضوح في ميزان القوى". وممّا يزيد من مخاطر الوضع "اقتراب موعد الانتخابات الأميركية وإمكان انتخاب رئيس لا يتوافق مع المعطيات الجديدة أو المستجدة". وعليه "سيبقى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مرحّلاً كما هو مصير البلد بشكل عام"، برأي خوري. "إذ من دون حكومة تملك شرعية كاملة وغطاءً سياسياً قوياً، لن يتمكّن لبنان من مسك زمام الأمور والتفاوض حول حقّ لبنان مصلحته مع صندوق النقد. وذلك انطلاقاً من خطّة إنقاذ وطنية قائمة على الإصلاح الاقتصادي والمصرفي والنهوض بالقطاع العام. والعناصر الثلاثة غير متوفرة راهناً. إذ يستحيل على حكومة غير رشيدة أن ترشد الإصلاحات وتنهض بالقطاعات المالية والمصرفية والعامة".

عدم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي يعني ببساطة عدم تحقيق لبنان للإصلاحات. والخشية ليست على المليارات الثلاثة الموعودة على مدى 4 سنوات، إنّما على استمرار فقدان النظام المالي العالي الثقة بلبنان"، بحسب خوري. "وإبقاء لبنان وجهة مضادة للاستثمارات".

وفي انتظار حلول ظرف ملائم لانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة قادرة، ستبقى كلّ الحلول الاقتصادية والمالية في "الثلاجة". وسيستمرّ "لهو" أركان السلطة على مختلف توجهاتهم اليمينية واليسارية في لعبة تبادل الأدوار حول توزيع المسؤوليات عن الانهيار، في تراجيديا وطنية يستحقّ عليها لبنان جائزة أسوأ أداء اقتصادي مسرحي مستمرّ منذ خمس سنوات.