ينهار الناتج، يتعاظم الفقر، يحلّق التضخّم، تختلّ الموازنات، تفلس المصارف... ويبقى الاستيرادُ الثابت الوحيد في الاقتصاد اللبناني. لا شبيه للحالة الاستهلاكية اللبنانية العجيبة، إلّا ذلك المثل القائل "تي تي، مثلما رحتي، مثلما جيتي" المشتقّ من رتابة الباص الشهير العامل على نقل الركاب بين دمشق وبغداد في ثلاثينيات القرن الماضي، والموسوم بعبارة TT - temporary transit.

يفترض المنطق الاقتصادي تحسّن الميزان التجاري إبّان الأزمات، ولا سيما النقدية المتّصلة بانهيار قيمة العملة. فيتراجع الاستيراد نتيجة ضعف القدرة الشرائية، ويزداد التصدير نتيجة تراجع الكلفة الإنتاجية وقوّة المنتجات الوطنية التنافسية. لكن هذا لم يحصل في لبنان. فباستثناء التراجع الكبير في عجز الميزان التجاري في العام الأول على الانهيار 2020، نتيجة الصدمة النفسية، والحجر الصحّي، فإن العجز عاود الارتفاع باطراد في الأعوام التالية. إذ تفيد أرقام الجمارك اللبنانية بارتفاع العجز من 7.75 مليار دولار في العام 2020 إلى 9.75 مليار دولار في العام 2021. ومن ثم إلى 15.56 مليار دولار في العام 2022. ثم عاود الانخفاض بنسبة 10.1 في المئة فقط في العام الماضي، محقّقاً عجزاً بقيمة ناهزت 14 مليار دولار.

الاختلال في بنية الصادرات

التحسّن الطفيف في عجز ميزان المدفوعات إلى نهاية العام الماضي، الصادرة أرقامه حديثاً في تقرير عن الجمارك، يعود بشكل أساسي إلى تراجع الاستيراد وارتفاع الصادرات نظرياً. إنّما في الواقع، لا انخفاض إجمالي السّلع المستوردة بنسبة 4.85 في المئة يعوّل عليه، ولا ارتفاع الصادرات بنسبة 18.53 في المئة يُمكن أن يُبنى عليه. فمن ناحية أولى، ما زال مقدار السلع المستوردة كبيراً جداً ويبلغ 18 ملياراً و130 مليون دولار، خصوصاً إذا ما قيس هذا الرقم على واقع بلد فقدت عملته 98 في المئة من قيمتها الشرائية، ويعاني 80 في المئة من المقيمين فيه فقراً متعدّد الأبعاد. ومن ناحية ثانية، تثير بنية الصادرات أسئلة مشروعة عن مدى استفادة الاقتصاد من صادرات القطاعات الانتاجية الحقيقية. بمعنى آخر عن القيمة المضافة التي تولّدها هذه الصادرات ومساهمتها في رفد البلد بالعملة الصعبة. فمن أصل مجمل الصادرات المقيّمة بـ4 مليارات و 140 مليون دولار، صدّر لبنان "لؤلؤاً وأحجاراً كريمة ومعادن" بـ807 ملايين دولار تشكّل 19.5 في المئة من مجمل الصادرات وتحتلّ المرتبة الأولى. كما صدّر لبنان بقيمة 455 مليون دولار تقريباً "معادن أساسية ومصنوعات المعادن العادية" بنسبة 11 في المئة من مجمل الصادرات. وعليه، فإنّ هذين البندين وحدهما شكّلا أكثر من ثلث الصادرات وبقيمة ناهزت ملياراً و262 مليون دولار.

نقطة الضعف الكبيرة في طبيعة أكثر السلع تصديراً أنّها لا تعود على الاقتصاد بأيّ قيمة مضافة. فباستثناء الصادرات المحدودة لمصنوعات الحلي والمجوهرات، يسود اقتناع راسخ عند المراقبين بأنّ حركة الارتفاع الكبير في صادرات الذهب وبعض أنواع الأحجار الكريمة، ما هي سوى واحدة من اثنتين، إمّا عملية إعادة تصدير لمستوردات الذهب والمعادن القادمة بشكل أساسي من البلاد الإفريقية. وإمّا عملية إخراج للأموال المحلّية بشكل غير مباشر، لتجنّب المساءلة والملاحقة. وهذا النوع من الصادرات الذي زاد بنسب ملحوظة منذ بداية الأزمة يمكن أن يُستدلّ عليه أيضاً من وجهة التصدير الأساسية للمنتجات اللبنانية، وهي سويسرا. وبالتّالي، إذا أردنا قياس الصادرات الحقيقة يجب أن نستثني هذا النوع من الصادرات، ونعتمد اعتماداً أساسياً على الصادرات الصناعية والزراعية، والتحويلية، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالمولّدات والأدوات الكهربائية. وقد حازت الصناعات التحويلية 15.5 من مجمل الصادرات في العام الماضي وقيمتها 621 مليون دولار. في حين اقتصرت حصّة الصادرات الزراعية والصناعية التقليدية على النصف المتبقّي من مجمل الصّادرات.

المستوردات تتراجع، ولكن!

على الرّغم من تراجع الاستيراد بنسبة قاربت 5 في المئة، فإنّ بند استيراد "المنتجات المعدنية"، الذي يتضمّن المحروقات على أنواعها، شهد خلال العام الماضي ارتفاعاً بنسبة 36.75 في المئة، من 3 مليارات و660 مليون دولار في العام 2022 إلى 5 مليارات في العام 2023. وقد يعود هذا الارتفاع بجزء طفيف منه إلى ازدياد أسعار النفط عالمياً، ولا سيما في الفصل الأخير من العام 2023، وبجزء آخر متصل بعودة الاستهلاك بنسبة كبيرة خصوصاً بالنسبة إلى البنزين للنقل والديزل للمولّدات الخاصّة، ولا سيما مع عدم تحسّن التغذية بالتيار الكهربائي واستمرار انقطاع التيار فترات طويلة. وكان من اللافت جداً في بنية المستوردات ارتفاع قيمة "اللؤلؤ والأحجار الكريمة والمعادن" المستوردة بنسبة 120.22 في المئة، من 1.15 مليار دولار في العام 2022 إلى 2.53 مليار دولار في كانون الأول من العام 2023. وهو ما يؤكّد ما سبق أن لاحظه المراقبون في ما يتعلّق بطبيعة استيراد المنتجات النفيسة من ذهب ومعادن وأحجار كريمة وتصديرها.

الخلل البنيوي في الميزان التجاري

العجز المزمن في الميزان التجاري تحوّل "مشكلة بنيوية نتيجة السياسة الاقتصادية المتّبعة"، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي الدكتور طالب سعد. وككل عام، ينتج هذا العجز من الفرق الكبير بين قيمة المستوردات الاستهلاكية بمعظمها، وتواضع التصدير، مقارنة بالعام 2022. وهو ما يدلّ على الطبيعة الاستهلاكية النهمة للاقتصاد من جهة، وعلى عدم تحسين ظروف القطاعات الانتاجية وتسهيل نموها وتطورها من جهة ثانية. فالمُنتج اللبناني لا يزال يعمل في ظلّ واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية المتروكة لمصيرها. أمواله محجوزة في المصارف، ويتكبّد كلفة إنتاجية باهظة، ولا سيما في ما يتعلّق بالمصاريف التشغيلية كالكهرباء والمياه. ويواجه صعوبات جمّة في الوصول إلى الأسواق العالمية، وخصوصاً العربية. وبحسب سعد، فإنّ "النّهم الاستهلاكي مردّه إلى تخصيص المستهلكين كلّ ما يحصلون عليه من أموال سواء من الأجور أو السحوبات أو التحويلات التي يتلقّونها... للاستهلاك الغذائي المستورد والتنقّل بشكل أساسي" من دون أن يكون هناك ادخار أو حتى شراء سلع استثمارية أو معمّرة أو حتى عقارات. و"بالتالي، لا يملك المستهلك الفرصة البديلة لتوظيف ما بين يديه من أموال بشكل عقلاني، بعيداً عن استهلاك السلع المستوردة، أساسيةً كانت أم كمالية"، من وجهة نظر سعد. "وهذا ما يقلّل من فرص نمو الإنتاج المحلّي وتصحيح العجز المزمن في الميزان التجاري. ويسهم في تعميق عجز ميزان المدفوعات (الحقيقي)، وتعريض سعر الصرف للخضّات. خصوصاً أنّ كلّ ما يدخل إلى البلد من عملات أجنبية من التحويلات وعوائد الصادرات لا يكفي لسدّ فجوة الميزان التجاري البالغة 14 مليار دولار". ويتوقف سعد عند مؤشر آخر لا يقلّ خطورة، هو "تشكيل العجز في الميزان التجاري 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، الذي لا يتجاوز 18 مليار دولار في أحسن الأحوال".

الميزان التجاري لن "يستوي" أو يتراجع عجزه إلى نسب مقبولة، يمكن تعويضه من التدفّقات النقدية، ما دام الإنتاج الوطني لم ينضج أي بقي "فجاً" باللغة المحكية. فمن شأن تطوير القطاعات الانتاجية استيلاد بدائل من الاستيراد والمساهمة في تدفق المزيد من الدولارات الناجمة عن الصادرات.