في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات، أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسوماً يقضي بتحويل كنيسة "كويرا" أو "خورا" الأثرية التاريخية مسجداً. وخلال الأسبوع الماضي افتتحت السلطات التركية الكنيسة، وهي أحد أشهر المباني البيزنطية في إسطنبول، أمام المصلّين المسلمين بعدما كانت قد حُوّلت متحفاً قبل أكثر من سبعين عاماً في حدث هو الثاني من نوعه. وسبق أن حوّل أردوغان، الذي يحاول تقديم نفسه كبطل إسلامي وخليفة، كنيسة آيا صوفيا الشهيرة مسجداً بعد ثمانية عقود على قيام الجمهوريين بتحويلها متحفاً.

وعلى الرّغم من الانتقادات الغربية التي تعتبر أنّ هذه الخطوة التركية تعمّق الخلافات الدينية، فإنّ أردوغان أصرّ على قراره رافضاً الانتقادات الغربية ومعتبراً إيّاها تدخّلاً في الشؤون التركية ومحاولة لمنعه من حماية حقوق المسلمين. ويعود تاريخ بناء كنيسة "كويرا" إلى القرن الرابع ميلادي، وهي تحتوي على أيقونات وفسيفساءات تاريخية قديمة وقد حوّلها العثمانيون مسجداً في العام 1511، وبقيت كذلك حتى تحويلها متحفاً زمن حكم حزب الشعب الجمهوري العلماني في العام 1945 واستمرّت على هذه الحال حتّى إعادة إعلانها مسجداً يوم الاثنين الماضي. وقد تمّ الحفاظ على القاعات الخارجية للكنيسة كمتحف، حيث يمكن الزوّار مشاهدة الفسيفساء الثمينة التي تنتشر في السقف من دون معوقات، فيما أخفت الستائر الفسيفساء في قسم الصلاة بالمبنى تماشياً مع التقاليد الإسلامية.

 أردوغان أصرّ على قراره رافضاً الانتقادات الغربية ومعتبراً إيّاها تدخّلاً في الشؤون التركية ومحاولة لمنعه من حماية حقوق المسلمين.

ولكن، لماذا عمد أردوغان إلى تحويل هذه الكنيسة جامعاً، إذ ليس هنالك حاجة ماسّة إلى جوامع في المنطقة التي تقع فيها الكنيسة بسبب كثرة الجوامع المجاورة. الجواب يكمن في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا وأدّت إلى تراجع شعبية أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" تراجعاً أسهم أخيراً في خسارته عدداً كبيراً من البلديات، بما فيها بلديّتا أنقرة واسطنبول. وتفيد التقديرات بأنّه من المتوقّع أن يبلغ متوسّط ​​التضخّم في البلاد 66 في المئة طوال العام 2024، وفقاً لتوقعات أيلول الصادرة عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية التركي، وهو ما يعدّ من أعلى معدّلات التضخّم في العالم.

وكانت تركيا عادت في العام 2023 إلى إصدار سندات بالدولار الأميركي لتمويل دينها المتنامي، وأصدرت سندات بقيمة 2.5 مليار دولار. في موازاة ذلك، رفع البنك المركزي التركي أسعار الفائدة من 8.5 في المئة إلى 45 في المئة في سابقة لم تحصل إلّا في لبنان خلال التسعينيات من القرن الماضي، زمن حكومة الرئيس رفيق الحريري الأولى. لذا، فإنّ ما قام به أردوغان خطوة ديماغوجية شعبوية سعت إلى إرضاء الجمهور التركي المتديّن، وتحويل أنظاره عن أزمته الاقتصادية المتفاقمة.

لكنّ بعض المراقبين يضيف سبباً آخر وهو محاولة أردوغان ابتزاز الأوروبيين عبر هذه الخطوة. فالرئيس التركي الذي خاب رجاؤه من مشروعه للعثمانية الجديدة الهادف إلى لعب دور مهيمن في المنطقة العربية، عاد إلى السياسات التقليدية التي اعتمدها العلمانيون الأتراك ثمانية عقود، والتي رمت إلى دمج تركيا في العالم الغربي والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا تحبّذه الدول الأوروبية. وقد كرّر أردوغان أخيراً تأكيده رغبة تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، معتبراً أنّه يمثّل أولوية لأنقرة. إلّا أنّ الأوروبيين واجهوه بالصدّ. لذلك اعتبر العديد من المراقبين أنّ خطوة أردوغان المتمثلة بتحويل الكنيسة جامعاً استفزازيةً لأوروبا ومحاولة لابتزاز مساعدات واستثمارات من الأوروبيين من أجل دعم الاقتصاد التركي، وفتح الباب لمجالات تعاون أوسع بين أنقرة وبروكسيل.

تأتي هذه التطورات في وقت يعاني الاقتصاد التركي تراجعاً مطرداً منذ عقد من الزمن. فقد سجّل الدولار الأميركي مستوى مرتفعاً أمام الليرة التركية بوصوله إلى 30 ليرة مقابل الدولار الواحد، علماً أنّ الدولار كان في تشرين الأول 2010 يساوي 1.12 ليرة. ونتيجة سياسات "اللبرلة" الاقتصادية والاقتراض الخارجي بفوائد عالية شهدت تركيا ارتفاعاً سريعاً في التضخم وتدهورًا سريعاً في عجز الحساب الجاري والموازنة.

الجدير ذكره أنّ تركيا دولة صناعية ذات قاعدة صناعية متنوّعة وناتج محلّي إجمالي إسمي تجاوز 1.1 تريليون دولار في العام 2023، لتحتلّ المرتبة 17 بين الدول. إلّا أنّ علاقاتها الاقتصادية هي مع الاتحاد الأوروبي في الدرجة الأولى فيما تشكّل الدول الصناعية السبع الوجهة الرئيسية للصناعات التركية بنسبة 53 في المئة من مجمل الإنتاج الصناعي التركي. وتعدّ أزمة ميزان المدفوعات في الاقتصاد القائم على الصناعة أكثر ضرراً من أزمة ميزان المدفوعات في الاقتصاد القائم على الموارد. وفي حالة تركيا، تتطلّب قدرة البلاد على أن يكون لديها عملة صعبة في بداية دورة الإنتاج، حتّى تتمكّن من دفع ثمن الواردات. ويمكن أن يؤدّي الفشل في شراء الواردات أو سداد الديون إلى بطالة هائلة وتفشّي التضخّم.

لذا فإنّ اردوغان بحاجة إلى تحسين أداء الاقتصاد التركي لمواجهة جملة استحقاقات سياسية، على رأسها استيعاب الصدمة التي تسبّبت بها هزيمته في الانتخابات البلدية التي حصلت في أذار 2024 خصوصاً أنّه يتأهب لاستحقاق نهاية ولايته الرئاسية في العام 2028 وحاجته إلى تعديل الدستور لكي يتمكّن من الترشّح لولاية رئاسية جديدة. لهذا السبب هو بحاجة إلى تحقيق فوز صريح بغالبية كبيرة في الانتخابات التشريعية المقبلة بغية تحقيق مراده.

في الوقت نفسه، فإنّ أردوغان لا يستطيع الاستغناء عن علاقاته بالاتحاد الأوروبي خصوصاً أنّ الإبقاء على هذه العلاقات كأولوية إستراتيجية لتركيا يمكن أن يعزّز التوقّعات الاقتصادية الإيجابية.

من هذا المنطلق، فإنّ خطوة أردوغان المتمثلة بتحويل كنيسة "كويرا" التاريخية جامعاً، هدفت في الدرجة الأولى إلى شدّ العصب الإسلامي لدى الجمهور التركي المتدين لاستعادة شعبيّته من جهة، وإلى ابتزاز الأوروبيين من جهة أخرى، بغية استجلاب المساعدات والاستثمارات منهم من أجل تحسين أداء الاقتصاد التركي.