في ظلّ مناخات من التأزّم الإقليمي، من الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة، إلى التوتّر الإيراني-الإسرائيلي بعد الضربات المتبادلة بين الجانبين، حطّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بغداد، الإثنين، تتويجاً لاتجاه جديد في التعامل مع العراق. 

شابَ العلاقات العراقية-التركية الكثير من التوترات خلال العقد الماضي. وطغى خلالها التعامل الأمني على ما عداه من عوامل أخرى، وفي مقدّمها التعاون الاقتصادي. أنقرة كانت تنظر إلى بغداد من منظور "حزب العمّال الكردستاني" الذي يتخذ من شمال العراق ملاذاً رئيسياً له. وبغداد كانت تنظر إلى تركيا على أنّها مصدر للقلاقل والاضطرابات الأمنية داخل العراق، خصوصاً بعد صعود تنظيم "داعش"، والتوغلات التركية داخل الأراضي العراقية وإقامة قواعد عسكرية دائمة. 

وثّقت تركيا على مدى أكثر من عقود العلاقات مع حكومة كردستان على حساب بغداد. وتوقّف ضخّ النفط عبر أنبوب كركوك-جيهان، واستبدلت الحكومة التركية ذلك بنفط تنتجه كردستان العراق، وبنفط مهرّب من شمال سوريا حيث لا توجد سيطرة لدمشق. هذا الملف الحساس كان موضع خلاف شديد مع بغداد، التي لمست تجاهلاً تركياً رسمياً في التعامل من دولة لدولة، ومحاولة لحصر التعامل مع العراق على أنّه حالة أمنية فقط، ليس أكثر. 

وكثرت شكاوى بغداد من تعامل تركي غير منصف في ما يتعلّق بنهري دجلة والفرات. مساحات شاسعة ضربها الجفاف والتصحّر في العراق بسبب إقامة تركيا المزيد من السدود على النهرين، من دون مراعاة حصّتي سوريا والعراق وخلافاً للقوانين الموقّعة سابقاً. وكانت هذه المشكلة سبباً أساسياً في تدهور العلاقات بين بغداد وأنقرة. 

لكن لا بد من طرح السؤال حول الظروف التي أملت التغيير في الموقف التركي والإيجابية المستجدّة حيال بغداد، وقيام أردوغان بالزيارة الرسمية الأولى للعراق وتوقيع أكثر من 20 مذكرة تفاهم واتفاقات أمنية واقتصادية؟ 



عند إمعان النظر في هذا التطور، سرعان ما يتبيّن أنّه يندرج في سياق توجه تركي أوسع لتنشيط العلاقات مع الدول الإقليمية، وفي هذا السياق كانت زيارة أردوغان لمصر في شباط الماضي، عقب فترة من الجفاء والتوتر، استمرّت أكثر من عقد، بعد إسقاط حكم "الإخوان المسلمين" عام 2013. 

بعد الانتخابات الرئاسية العام الماضي في تركيا وفوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، قرّر الأخير فتح صفحة جديدة مع مصر، وجرى في سياقها تضييق السلطات التركية على كوادر "الإخوان" الذين كانوا لجأوا إلى تركيا، وبدأوا من هناك شن حملات إعلامية على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. 

ومع ذلك، قلب أردوغان الصفحة مع مصر وسلك طريق الواقعية السياسية، وقرّر التعاون مع القاهرة في القضايا الشائكة التي تشهدها المنطقة، من غزّة إلى السودان إلى ليبيا، فضلاً عن فتح الآفاق أمام قيام تعاون اقتصادي أكبر بين البلدين. 

بعد الانتخابات المحلية التركية الشهر الماضي، والتي شهدت فوز المعارضة وانحسار شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم للمرة الأولى منذ عقدين، قرّر أردوغان الانفتاح على العراق، سياسياً واقتصادياً في وقت يحتاج الاقتصاد التركي إلى دفعة جديدة تعيد ثقة الناس بقدرة الحكومة التركية على معالجة الأزمات المعيشية في المقام الأول. وهذا لن يتحقّق من دون مبادرات تركية جريئة حيال دول الجوار. 

العراق يمكن أن يشكّل بوابة تركيا إلى الخليج. وهذا ما يوحي به اتفاق "طريق التنمية الإستراتيجي" الذي تمّ التوقيع عليه بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الإثنين. 

لعلّ هذا الاتفاق الذي ينصّ على إقامة 1200 كيلومتر من الطرق والسكك الحديدية التي تربط بين ميناء الفاو في جنوب العراق وتركيا، يشكّل نقطة ارتكاز أساسية في تعزيز الروابط التجارية بين العراق وتركيا. ولا يخلو هذا الاتفاق، الذي تبلغ استثماراته 17 مليار دولار، من بُعد إقليمي نظراً إلى شموله أيضاً دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر. 

وإذا كان الانفتاح التركي على مصر والعراق، يأتي في ظلّ توتر تركي-إسرائيلي على خلفية حرب غزّة، فإنّ بغداد ترى في تنقية العلاقات مع تركيا من الشوائب، تعزيزاً لدور العراق في المنطقة. وإذا تمكّن السوداني من تسوية الملفّ المائي فعلاً كما وعد أردوغان، فإنّ ذلك من شأنه أن ينعش الوضع الاقتصادي العراقي، فضلاً عن أنّ تسوية مسألة الصادرات النفطية العراقية عبر تركيا، توفّر 14 مليار دولار سنوياً لبغداد. 

وعلى رغم عدم وجود أيّة مؤشرات تدلّ على احتمال حصول تحوّل تركي بالنسبة إلى سوريا، فإنّ المصالحة مع القاهرة وبغداد، قد تفتح آفاقاً أمام اضطلاع العراق بدور ما على هذا الصعيد، ربطاً بالدور الذي لعبه العراق في التقريب بين السعودية وإيران. 

بالدرجة الأولى، يهمّ أنقرة الحصول على تعاون أمني في مواجهة "حزب العمال الكردستاني"، بينما يهم بغداد الحصول على حصتها كاملة من المياه. لا يلغي هذا أنّ عودة الدفء إلى العلاقات العراقية التركية قد تنعكس إيجاباً على المنطقة بكاملها.