هذه الانتخابات كانت محطّ أنظار الولايات المتحدة التي كانت تفضّل فوز كليتشيدار أوغلو، إضافة إلى روسيا وإيران اللتان كانتا تحبّذان فوز أردوغان...

حسم الرّئيس التّركي رجب طيب أردوغان الانتخابات الرئاسية لصالحه، وفاز بولاية جديدة مدّتها 5 سنوات بعد حصوله على 52.87 بالمئة من أصوات الناخبين في الجولة الثانية من الانتخابات، في مقابل حصول منافسه كمال كليتشيدار أوغلو على 47.13 بالمئة من الأصوات.

وكان ملاحظاً أنّ هذه الانتخابات لم تقتصر على تنافس داخلي بين القوى التركيّة المؤيّدة لأردوغان وتلك المعارضة له، بل أنّ هذه الانتخابات كانت محطّ أنظار الولايات المتحدة التي كانت تفضّل فوز كليتشيدار أوغلو، إضافة إلى روسيا وإيران اللتان كانتا تحبّذان فوز أردوغان، خصوصاً أنّه في ظلّ عهد هذا الأخير شهدت علاقات موسكو وطهران بأنقرة تحسّناً مضطرداً على الرّغم من بعض النقاط الخلافية. وقد استفاد الرّوس والإيرانيون من علاقاتهم بأردوغان لإبعاد تركيا نسبياً عن المعسكر الغربي، في ظلّ حالة الاستقطاب الحادّة بين كتلة الدّول الاوراسية التي تضمّ الصين وروسيا وإيران، وكتلة الدّول الأطلسية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.

علاقات أنقرة بواشنطن

كانت الولايات المتحدة تراهن على أن تكون تركيا أحد أضلع المثلّث السنّي بالإضافة إلى مصر والمملكة العربية السعودية في مواجهة ما تعتبره تمدّداً "للهلال الشيعي" بقيادة إيران

شهدت العلاقات التركية الأميركية خلال العقدين الماضيين انتقالاً من حالة التعاون التامّ والتي امتدّت منذ العام 2002، تاريخ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان، حتى العام 2013 تاريخ سقوط رهان الولايات المتحدة على الإخوان المسلمين وتركيا في المشرق العربي، إلى حالة الفتور التي امتدّت منذ العام 2013 إلى يومنا هذا.

وكانت الولايات المتحدة تراهن على أن تكون تركيا أحد أضلع المثلّث السنّي بالإضافة إلى مصر والمملكة العربية السعودية في مواجهة ما تعتبره تمدّداً "للهلال الشيعي" بقيادة إيران، خصوصاً أنّ هذه الأخيرة كانت قد تقاربت بشكل كبير مع روسيا والصين وباتت جسر عبورهما إلى شرق المتوسط.

لكن العام 2013 شهد سقوط رهان الولايات المتحدة على الإخوان المسلمين نتيجة سوء أدائهم في السلطة في مصر في ظلّ الرّئيس الإخواني محمد مرسي، عندما اصطدموا بجميع شرائح الشعب المصري، وبعدما فشلوا في استلام السّلطة في المملكة العربية السعودية ليشكّلوا بديلاً عن الأسرة الحاكمة هناك. وكانت المعركة الحاسمة في هذا الإطار هي معركة القُصَيْر في غرب سوريا، والتي انتصر فيها الجيش العربي السّوري وحزب الله في مواجهة الجماعات المسلّحة المدعومة من تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية، والتي حسمت موضوع بقاء النظام البعثي والدولة في سوريا.

هذا جعل واشنطن تسحب رهانها على دور تركي في سوريا والمنطقة العربية لصالح الاعتماد على الورقة الكردية في شمال شرق سوريا وشمال العراق وشمال غرب إيران. لكن هذا أثار حفيظة أردوغان الذي خشي من أنّ هذا سيشجّع الانفصاليين الأكراد على التحرّك في تركيا، خصوصاً في ظلّ دعم واشنطن لحزب الشعوب الديمقراطية الذي يسيطر عليه حزب العمّال الكردستاني.

وما زاد من حفيظة واشنطن هو العلاقات التي نسجها نجم الدين بلال إبن أردوغان مع الإيرانيين، والتي ساعدت الأخيرين على تدوير مئات ملايين الدولارات في المصارف التي يديرها رجال أعمال مقرّبون من ابن الرئيس، بما أدّى إلى مساعدة طهران على تجاوز العقوبات الأميركية.

هذا جعل واشنطن تغضب على أردوغان ودفعها إلى معارضة جدولة الديون التركية التي كانت قد تصاعدت من 30 مليار دولار إلى نحو 450 مليار دولار خلال عقد من حكم العدالة والتنمية، ما أدّى إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية في تركيا وتصاعد المعارضة.

وفي العام 2016 حصلت محاولة انقلاب في تركيا بقيادة وحدات من الجيش بدعم من الولايات المتحدة، وفقاً لما جاء على لسان مناصرين لأردوغان ما فاقم من تأزّم العلاقات بين أنقرة وواشنطن. وقد زاد على ذلك دعم الولايات المتحدة لجماعة سوريا الديمقراطية الكردية في شمال سوريا، ما دفع بأردوغان إلى إرسال وحدات من الجيش التركي لاحتلال مواقع في شمال سوريا وهو ما أغضب واشنطن التي هدّدت في العام 2019 بسحب جنودها من قاعدة انجرليك في تركيا. وقد سبق ذلك فرض واشنطن لعقوبات اقتصادية على تركيا فاقمت من الازمة المالية في البلاد.

في هذا الوقت كانت واشنطن قد بدأت بدعم أحزاب المعارضة التركية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كليتشيدار أوغلو للإطاحة بأردوغان في الانتخابات الرئاسية للعام 2023. وقد جرى الحديث عن زيارة قام بها كليتشيدار أوغلو إلى واشنطن لتنسيق الدعم الأميركي للمعارضة قبيل الانتخابات.

علاقات أنقرة بموسكو

وقّعت تركيا صفقة لشراء نظام الدّفاع الصاروخي الروسي اس 400، ممّا أدّى إلى توتّر مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي

في الوقت الذي كانت العلاقات التركية الأميركية تتراجع، فإنّ العلاقات الروسية التركية كانت تنتقل من طور التوتّر إلى طور التعاون. فعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا فإنّ أحد رهانات أردوغان كانت في جعل تركيا ممرّ عبور أنابيب النّفط من وسط آسيا باتجاه أوروبا (خط نابوكو) كبديل عن روسيا. وكان هذا يحظى بمباركة أميركية في ظلّ سعي واشنطن لعزل موسكو عن أوروبا. لكنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمكّن من إفشال هذا المخطّط بإقامة شبكات تعاون مع دول آسيا الوسطى في إطار منظّمة شنغهاي للتعاون التي أُطلقت في العام 2001 وضمّت روسيا والصين وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان. كذلك فإنّ الرئيس الروسي استطاع استمالة هنغاريا إلى صفّه مبعداً إيّاها عن المشروع التّركي.

وقد شكّل دعم تركيا للحركات الإسلامية في منطقة القوقاز عامل توتّر آخر بين أنقرة وموسكو، أضيف إليها دعم أردوغان لمحاولة الإطاحة بالرّئيس السوري بشار الأسد بعد العام 2011، في إطار المخطّط لإحكام الغرب سيطرته على سوريا، ومنع تحوّلها إلى معبر لروسيا والصين وإيران باتجاه شرق المتوسط. وقد وصلت العلاقات الرّوسية التركية إلى قمّة التوتّر بعد نزول القوات الروسية في سوريا وإقامتها لقاعدة حميميم كمنطلق لأعمالها في مكافحة الإرهاب، وهذا ما اعتبره أردوغان مسعاً روسياً لإفشال مخطّطاته في سوريا. وكانت نقطة الذروة في هذا التوتّر عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية، وبعدها قيام حارس تركي باغتيال السير الروسي في أنقرة.

لكنّ موسكو كانت تسعى لاستيعاب أنقرة في ظلّ معرفتها بتوتّر علاقات هذه الأخيرة مع واشنطن. وقد كانت اللحظة المفصلية في ذلك عندما نقلت وسائل إعلام أنّ موسكو زوّدت أردوغان بمعلومات عن حركة الانقلابيين في تمّوز 2016 ما ساهم في إفشال الانقلاب ضدّه. وفي ظلّ العقوبات الأميركية على تركيّا فإنّ روسيا شكّلت بديلاً لتركيا عن الولايات المتحدة. وقد بدأت العلاقات الاقتصادية بالتوطّد بين البلدين وصولاً إلى تحوّل روسيا إلى شريك اقتصادي مهمّ بالنسبة لتركيا، حيث بلغ حجم التجارة بين البلدين 25 مليار دولار في عام 2019. كما استثمرت روسيا بكثافة في البنية التحتية للطاقة في تركيا، بما في ذلك بناء خطّ أنابيب الغاز "ترك ستريم" الذي أصبح بديلاً لموسكو عن الخطّ الأوكراني لنقل الغاز إلى أوروبا، كما أصبحت روسيا المزوّد الرئيسي لتركيا بالغاز مؤمّنة 60 بالمئة من حاجاتها من الغاز، إضافة إلى قيام روسيا ببناء محطّة للطّاقة النووية في تركيا بقيمة 10 مليارات دولار.

وفي العام 2017، وقّعت تركيا صفقة لشراء نظام الدّفاع الصاروخي الروسي اس 400، ممّا أدّى إلى توتّر مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. كذلك فإنّ روسيا أجرت مناورات عسكرية مشتركة مع تركيا في العديد من المناسبات. كذلك فإنّ روسيا استطاعت اجتذاب تركيا لتصبح عضوًا في منصّة استانة حول سوريا إلى جانب روسيا وإيران، مبعدة إياها نسبياً عن فلك واشنطن في ما يتعلق بالأزمة السورية. كلّ هذه الأسباب جعلت موسكو تحبّذ فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية على حساب كليتشيدار أوغلو الذي يحظى بدعم واشنطن.

علاقات أنقرة بطهران

ترتبط إيران وتركيا بعلاقات اقتصادية وثيقة خصوصاً في ما يتعلّق بالطّاقة، علماً أنّ تركيا هي من كبار مستهلكي النفط والغاز الإيراني

في ما يتعلّق بإيران، فإنّ علاقاتها بتركيا كانت متقلّبة على مدى العقدين الماضيين مع ميل للتحسّن وتفضيل طهران لأردوغان على من عداه من الزعماء الأتراك. فلقد تفاءلت طهران بوصول حزب إسلامي هو حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة في تركيا في العام 2002، واعتبرت ذلك مقدّمة لابتعاد أنقرة نسبياً عن إسرائيل، بعدما وصلت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى مرحلة التنسيق الاستراتيجي خلال التسعينات في ظل حكم الأحزاب العلمانية.

وعلى الرغم من وعي طهران لمحاولة الولايات المتّحدة إقامة مثلّث سنّي من أنقرة والرياض والقاهرة في مواجهتها، إلّا أنّها فضّلت التعاون الإيجابي وتشبيك المصالح مع النّخب التركية الصّاعدة في كنف العدالة والتنمية. وقد وصل الأمر بطهران إلى استمالة نجم الدين بلال نجل أردوغان لإقامة علاقات تعاون أثارت حفيظة واشنطن التي وجدت أنّ إيران قد تمكّنت من خرق العقوبات المفروضة عليها.

ومع العلم أنّ تركيا وإيران تقفان على طرفي نقيض في ما يتعلق بالحرب على سوريا، في ظلّ محاولة أردوغان الإطاحة بالرّئيس السوري الذي يعتبر حليفاً قوياً لإيران، فإنّ العلاقات الإيرانية التّركية بقيت قوية على صعد أخرى ومن أهمّها الصعيد الاقتصادي. وترتبط إيران وتركيا بعلاقات اقتصادية وثيقة خصوصاً في ما يتعلّق بالطّاقة، علماً أنّ تركيا هي من كبار مستهلكي النفط والغاز الإيراني رغم العقوبات الأميركية ضدّ إيران. وخلال العقد الماضي، وقّع مسؤولون أتراك وإيرانيون عدّة اتفاقيات لتعزيز العلاقات التجارية بين بلديهم. وفي العام 2017، وقّع البَلدان اتفاقيّة تجارة تفضيلية تهدف إلى زيادة حجم التجارة إلى 30 مليار دولار بحلول عام 2023، وتضمّنت الاتفاقية تخفيض الرسوم الجمركية على استيراد بعض السلع.

وقد تمكّنت إيران من اجتذاب تركيا للتعاون معها في ما يتعلق بالحرب في سوريا، خصوصاً في ظل خشية البلدين من الحركة الانفصالية الكردية. ففيما تخشى تركيا من أن يشكّل الاكراد في شمال سوريا قاعدة لتشجيع أكراد تركيا على الانفصال، فإن إيران تخشى من حركة انفصالية كردية في شمال غرب إيران تلقى دعم واشنطن. كلّ هذا يجعل إيران تفضّل بقاء أردوغان في السّلطة على الرّغم من تحفّظها على دوره في سوريا، وفي إثارة التوتّر في القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا ما يؤثّر على الأقلّية الاذرية في شمال غرب إيران، والتي تشكّل 16 بالمئة من السكّان، علماً أنّ إيران هي حليف استراتيجي لأرمينيا، وما يفاقم من خطورة الموضوع بالنسبة لإيران هو تغلغل النفوذ الإسرائيلي في أذربيجان.

خلاصة

بالمحصّلة فإنّ الولايات المتحدة تبدو وكأنّها خسرت جولة في معركة استقطاب تركيا إلى صفّها في مواجهة روسيا وإيران، فيما تبدو موسكو وطهران راضيتان عن النتيجة التي تصبّ في صالحهما لجهة أن تلعب تركيا دوراً مستقلاً إلى حدّ ما عن الهيمنة الأميركية ولو تضاربت مصالحهما مع مصالح أنقرة في بعض المحطّات، علماً أنّ روسيا تعوّل على دور تركي في التوسّط مع الغرب في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، فيما تعوّل إيران على تركيا في أن تشكّل متنفّسا لاقتصادها يخرق الحصار الغربي المفروض عليها. يضاف إلى ذلك أنّ موسكو وطهران تراهنان على اجتذاب أردوغان إلى صفّهما في ما يتعلق بالأزمة السّورية في ظلّ خشية الرئيس التركي من دعم الولايات المتحدة للأكراد في سوريا والعراق وإيران.