حين تنهار أو تهتزّ الثقة بين شخصَين أو منطقتَين أو حزبَين أو طائفتَين في لبنان يتطلّب ترميمها وإعادة إحيائها جهوداً ومراحل وإجراءات يتم اختبارها لإثبات صدقيتها واستمرارها.
وهذا ما ينطبق الآن على إعادة الثقة بين الدول العربية وخصوصاً الخليجية وبين لبنان، بعد فقدان الثقة العربية والدولية بالسلطة اللبنانية سنوات مديدة تعود على الأقل إلى ما بعد حرب تموز 2006 واجتياح "حزب الله" وحلفائه بيروت وبعض الجبل في أيّار 2008، وقد مرّت أمس في السابع منه الذكرى السابعة عشرة لهذا الاجتياح الذي كسر الثقة بين اللبنانيين، وأتلفها بين لبنان والعرب والعالم.
هذا الإرث الثقيل من الشك والريبة والنفور يحتاج إلى المعالجة والتبديد عبر تغيير النهج السابق من الرضوخ للأمر الواقع والتسليم بمصادرة الصلاحية الشرعية والقرار السيادي للدولة، تارةً تحت الإقرار بضعفها وهشاشتها، وتارةً أخرى تحت النظرية البائدة "ربط النزاع" مع السلاح.
لا شك في أن "الدولة اللبنانية الجديدة"، مع رئاسة جوزف عون وحكومة نوّاف سلام، تملك الإرادة والتصميم على طيّ مرحلة الحذر العربي والعالمي، وقد باشرت إجراءاتها العملانية لاستعادة الثقة المفقودة، بدءاً من مطار بيروت وطريقه وصولاً إلى أصول الترحيب والضيافة وتأمين المواقع السياحية ومراكز إقامة السيّاح، وجمعت سفراء الخليج العربي وأطلعتهم بالوقائع على الترتيبات الأمنية والإدارية واللوجستية التي نفّذتها.
كما أن رئيس الجمهورية حمل ويحمل ترميم الثقة إلى هذه الدول، فيزور الكويت بعد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر ومصر، مع الوعد بألّا تتكرر تجربة "خلية العبدلي" هنا وتجارب إسناد حرب الحوثيين ضد السعودية هناك وتوجيه الشتائم والتخوين والتهديد إلى ملوك ورؤساء وأمراء هنالك.
ولذلك، فإن الأساس في إجراءات بناء الثقة هو استدامتها وثباتها، فلا تتأثر بهبّات غير محسوبة للسلاح غير الشرعي والكراهية السياسية والمذهبية، أو بتفلّت عملية أمنية كما حصل مرّتين بإطلاق صواريخ من شمال الليطاني، أو بالعودة إلى رفع عقيرة "قطع الأيدي" وتقديس السلاح.
وقد جاء تسليم "حركة حماس" بعض المطلوبين ليصبّ في مسار الدولة نحو بسط سيادتها، على أن تُستكمَل هذه الخطوة بضبط سلاح المخيمات الفلسطينية نتيجة المحادثات التي سيجريها الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في بيروت في 21 الشهر الجاري.
وفي الحساب الأمني والسيادي أن نزع السلاح الفلسطيني ليس معزولاً عن سائر الأسلحة غير الشرعية وأبرزها سلاح "حزب الله"، طالما أنها تنتمي إلى المحور نفسه في "جبهة الممانعة" والشعار المتهافت "وحدة الساحات"، ولو استغرق الأمر وقتاً أطول مع ترتيبات أكثر تعقيداً بفعل ارتباط هذا السلاح مباشرةً بقرار طهران ومصير المفاوضات الإيرانية الأميركية.
وإذا اعتمدنا التطوّر في الوضع اليمني كمعيار للتوجّه الإيراني في المنطقة فإن تخلّي طهران عن أذرعها لم يعُد من باب التكهّن، رغم أن صنعاء الحوثية، وتحت الضربات المدمّرة التي تعرّضت لها في الأيام الأخيرة تحاول المهادنة مع الأميركيين بطلب إيراني (لاسترضاء واشنطن واستجداء ليونتها، علماً أن ترامب وصف هذه المهادنة بالاستسلام)، واستمرارها في الرد على إسرائيل، بدافع من وهم التفريق اليائس بين الحليفَين.
هذا الاستطراد إلى مأزق الحوثيين في اليمن هو للربط مع مصير سلاح "حزب الله"، بما لا يختلف عن مصير سلاح الحوثي، وعن الأثمان ومقايضات "البازار" التي بدأت إيران تعرضها في المفاوضات، خلافاً لما يزعمه وكلاؤها في لبنان عن حصرها هذه المفاوضات بالملف النووي فقط وعدم بحث نفوذها في المنطقة وصواريخها البعيدة المدى.
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن استعادة الثقة العربية والدولية الكاملة والثابتة بلبنان ترتبط بشكل مُحكَم بمصير سلاح "الحزب"، فقد تأتي وفود السياح الخليجيين هذا الصيف كاختبار لنجاح إجراءات الدولة، لكنّ السياحة العربية المستدامة والثقة المستعادة تتطلّبان حسماً نهائياً لمسبّبات الحذر وعوامل القلق واحتمالات اهتزاز الأمن.
وأبعد من السياحة ومردودها الموسمي هناك المساعدات المالية المهمّة والضرورية لإحياء المؤسسات وتطبيق الإصلاحات وإعادة الإعمار، فهي مرهونة بالتحرّر الكامل من أي ضغط على الدولة بالسلاح غير الشرعي، وبحجّة الحاجة إلى "المقاومة" لردع إسرائيل.
إن الاستقرار الدائم في لبنان يقوم على امتلاك الدولة قرارها الشرعي وفرضه على جميع اللبنانيين والمقيمين تحت العنوان البنيوي "حصر السلاح في يدها"، على أن يتحوّل إلى حقيقة واقعية ميدانية، ولا يبقى أسير النصوص والمواقف، فيجدد وطن الأرز انتسابه الخلّاق إلى الشرعيتَين العربية والدولية وينفتح أمامه أفق الحياة الكريمة.