غدًا الأحد يخوض لبنان انتخاباته البلدية والاختيارية، في مشهد وسلوك ديمقراطيين، افتقدهما اللبنانيون، منذ العام 2022، إذ تأجل إجراء هذا الاستحقاق ثلاث مرات.
كان التأجيل الأول عام 2022 نتيجة تزامن الانتخابات البلدية مع الانتخابات النيابية، والتأجيل الثاني عام 2023، سنة واحدة، لعدم قدرة الدولة على توفير التمويل اللازم. أما التأجيل فكان العام الماضي، خصوصًا أن لبنان كان في خضم حرب أطلقتها إسرائيل عليه، ما زالت مفاعيلها مستمرة إلى اليوم.
وتتوزع الانتخابات البلدية والاختيارية على مراحل أربع، بحسب المحافظات الثماني: في جبل لبنان في 4 أيار، أي غدًا، وفي لبنان الشمالي وعكار في 11 منه، في بيروت والبقاع وبعلبك - الهرمل في 18 منه، وفي لبنان الجنوبي والنبطية في 25 منه، متزامنة مع عيد التحرير... يا للمصادفة!
وإذا كانت الانتخابات البلدية التي لم يختبرها اللبنانيون، كما الانتخابات النيابية، إذ إن أجيالًا منهم لم تعرفها، منذ مطلع ستينات القرن الماضي، فلم تُجرَ بعد، إلا عام 1998، فإن الاستحقاق البلدي ليس جديدًا على تاريخ لبنان، أو بالأحرى على مدنه الممالك في ما مضى، سابقًا بذلك دولًا عريقة في الديمقراطية.
إذ يتحدَّث عالِم المصريَّات "فلندرز بتري" عن وجود للبلديات في فينيقيا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ويؤكد تقرير "ون آمون" الذي يعود إلى مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أن المحافل البلدية كثرت جدًّا في المدن الفينيقية.
مسؤولية عامة تفوق، في أهميتها، مسؤولية النائب أو الوزير
والملاحظ في هذا الاستحقاق المنتظر، بدءًا من غد، حماسة جيل من الشبان والشابات لخوضه، فشكلوا لوائح في مناطق شتى، يعوِّل العاملون في مجال الإحصاءات على تحقيقهم من خلالها نتائج لافتة، سواء نجحوا أم "خذلتهم" صناديق الاقتراع.
والملاحظ أيضًا أن الاعتراف بأهمية البلديات تجلَّى في خوض مرشحين سابقين إلى الانتخابات النيابية، الاستحقاق البلدي.
يضاف إلى ذلك أن الاعتبار العائلي وخصوصية كل قرية طغيا على محاولات أحزاب ركب الموجة البلدية، للرسملة لاحقًا في الانتخابات النيابية المقررة بعد سنة. ثمة أحزاب أو تيارات أو حركات تركت الحرية لناخبيها، وثمة أخرى تخوض الاستحقاق من منطلق سياسي، مرتكزة على فائض قوة وهمي، فتصوِّر معارك ستشهدها مدن كبرى ذات رمزية، كأنَّها "حرب العلمين"، أو "حرب داحس والغبراء"، يتوقَّف عليها مصير الكرة الأرضية برمته.
ويجب ألا ننسى محطتي البقاع والجنوب، حيث الاختبار الأهم لقدرة الثنائي الشيعي على إظهار وحدته وشعبيته، في مواجهة الضغط الدولي والإقليمي والمحلي على بيئته، لجعله يتخلى عن السلاح وأبلسة ثقافة المقاومة التي يؤمن بها، كرد فعل مقاوم على استمرار الصلف الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، من دون حسيب ولا رقيب.
والنتيجة... لا هذه ولا تلك من كل ما سبق. إذ ما دامت البلديات والقوانين التي تحدد مهامها ودورها، هي إياها، من حيث جباية الضرائب وغياب الاستفادة من الصندوق البلدي المستقل، فلا طائل من انتخاباتها، ما لم تقترن بإقرار قانون اللامركزية الموسعة، إداريًّا وماليًّا، بما يجعل من البلدية سلطة محلية قائمة بذاتها تتمتع باستقلال مالي يصرف في إنماء النطاق البلدي، أو المحافظة، من ضمن اتحاد بلديات.
وهذا أمر متعسر حتى اليوم، إذ إن النظرة إلى اللامركزية الواردة بندًا أساسًا في وثيقة الوفاق الوطني، وبالتالي في الدستور اللبناني، ما زالت متباينة بين الأفرقاء. والظاهر أن الانشداد إلى المركزية، بما هي استئثار بمقدرات الدولة، وتقاسم جبنة الحكم بين عائلات واقطاعات تاريخية، تجسيدًا للدولة العميقة المتحكمة بشؤون البلاد والعباد منذ زمن بعيد، هو الطاغي، في مقابل سعي أفرقاء آخرين إلى لامركزية حقيقية، تتيح لكل محافظة، أو دائرة، أو قضاء، أو حتى بلدة أو مدينة، أن تنهض بنفسها، بعد أن تسدد ما عليها من مستحقات للدولة المركزية.
ليست البلدية، رئاسة وعضوية، منصبًا للوجاهة، ولقبَ "ريِّس". هي مسؤولية عامة تفوق، في أهميتها، مسؤولية النائب أو الوزير.
وليس المطلوب من رئيس البلدية أن يعمل بالنصيحة الرحبانية، حين خاطبته فيروز صادحة: "بلديتكن كريمة، كل يوم عندا عزيمة، طعميهن على حسابك، بيصير عندك شعبية"... فلا المواطنون جوعى إلى مائدة أو فتات مائدة، ولا كرامتهم تشرى وتباع. رئيس البلدية، وبعد أن يُطوَّر قانون البلديات، رئيس سلطة تنفيذية، أو حكومة محلية، وناخبوه مواطنون في "دولته" الصغيرة، من ضمن الوطن الكبير. فليتصرف وفق هذا المفهوم، ومن ضمن هذا المنطق، وإلا عليه، وفق النصيحة الرحبانية: "ناقص يقلي بطاطا، ويقدم ع الصَّينية".