كلّما حاولت القطاعات الانتاجية والخدماتية إيجاد متنفّس في زحمة الانهيار، أطبقت عليها الظروف بألف جدار. فمن بعد التأقلم مع فوضى سعر الصرف، و"بلع موس" احتجاز الودائع، والتعايش مع كلفة الطاقة الهائلة، أتى ما هو خارج الحسبان. زيادة في الضرائب والرسوم، حرب على التخوم، استمرار تقطّع سلاسل التصدير، واعتكاف فاضح عن تحقيق الإصلاحات البديهية في النظامين النقدي والمالي.

هذه الأجواء عكسها الصناعيون خلال لقاء "الصناعة اللبنانية تحديات وآفاق"، الذي عقد في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بمشاركة وزير الصناعة جورج بوشيكيان وعدد من النواب وحشد من أعضاء جمعية الصناعيين يتقدّمهم رئيسها سليم الزعني.

الاقتصاد الأسود يتهدّد الصناعة

يتضح من الكلمات والمداخلات التي ألقيت في "المجلس"، أنّ زيادة الضرائب والرسوم، وتنامي الاقتصاد غير الشرعي، وارتفاع معدّلات التهريب، وعرقلة التصدير إلى بعض الوجهات العربية، تشكّل مصدر القلق الأساسي للصناعي اللبناني. فـ"ليست القوة في ضرب الصناعة بالضرائب"، في نظر الزعني. "إنّما أن ننظّم القطاع ونحفّز التصدير لتتمكن الصناعة من النمو بشكل تحمي فيه نفسها، وبالتالي تحمي الاقتصاد‎‎".

ما يطرحه الصناعيون مترابط إلى حدٍ كبير. ففي ظلّ توقّعهم بارتفاع نسبة المؤسسات التي "تعمل بالأسود"، إلى أكثر من 70 في المئة، سيقع العبء الضريبي على عاتق 30 في المئة فقط من المؤسسات الشرعية. وعليه، سترتفع كلفة الإنتاج في المؤسسات الملتزمة، في حين أن تلك غير المرخّصة، والتي تتهرّب من تسديد الضرائب، وتستورد السلع المهربة، ستبيع بأسعار أرخص. وهذا ما يُفقد المؤسسات الشرعية القدرة التنافسية، وخصوصاً في الأسواق الداخلية التي تشكّل السوق الأساسية للمبيعات، ويدفعها إلى الإقفال أو تصغير حجمها. وذلك لا بد من أن يرتد سلباً على حجم التقديمات للقوى العاملة، وعلى الاقتصاد وسمعة لبنان عموماً.

زيادة الضرائب والرسوم، وتنامي الاقتصاد غير الشرعي، وارتفاع معدّلات التهريب، وعرقلة التصدير إلى بعض الوجهات العربية، تشكّل مصدر القلق الأساسي للصناعي اللبناني

معوقات التصدير

من المعوقات المهمة التي تواجه القطاعات الانتاجية بشكل عام، والصناعية بشكل خاص، يبرز "استمرار منع التصدير إلى العديد من الوجهات العربية الأساسية، وحظر تأشيرات الدخول إلى بعضها الآخر. وهذا ما يحرم الصناعيين من المشاركة في الفعاليات الاقتصادية والتسويق لمنتجاتهم"، بحسب مصدر صناعي. فالتصدير الصناعي من لبنان إلى السعودية تراجع إلى الصفر مطلع العام 2024، بعدما كان يستحوذ على حوالى 289 مليون دولار من مجموع الصادرات المقدرة بـ 3.7 مليار دولار في العام 2019. كما تراجع التصدير إلى البحرين، ويعاني الصناعيون اللبنانيون للحصول على تأشيرات الدخول إلى الكويت. "وعلى الرّغم من أهمّية هذه الأسواق بالنسبة إلى القطاعات الانتاجية اللبنانية، وتحقيق لبنان فائضاً في ميزانه التجاري مع السعودية، فإنّ المسؤولين لم يحرّكوا ساكناً منذ العام 2021 لحلّ المشكلات وضبط الحدود، وعدم الإساءة، وطمأنة الأشقاء العرب إلى أنّ لبنان لن يكون بوابة لتصدير الممنوعات"، بحسب المصدر، وهو ما فاقم مشكلات الصناعة وحرمها من أسواقها التقليدية التي بنتها على مدى أعوام طويلة. و"دفع بالعديد من الصناعيين إلى نقل مصانعهم إلى دول قريبة من أجل المحافظة على أسواق تصريف منتجاتهم. كما لم يسعى المسؤولون إلى فتح أسواق بديلة وتسهيل دخول البضائع اللبنانية إلى الأسواق الأجنبية". ولعلّ أكثر ما يثير مخاوف الصناعيين هو فقدان هذه الأسواق التقليدية نهائيّاً حتى لو عادت العلاقات إلى سابق عهدها. فانطلاقاً من كون الطبيعة تكره الفراغ، "حلّت البضائع المنافسة المستوردة من وجهات أخرى مكان البضائع اللبنانية"، يضيف المصدر. "ولم يعد من السهل على الكثير من المنتجين الدخول من جديد إلى هذه الأسواق".

التصدير الزراعي يتوقّف كلّياً!

زراعياً، ليس الوضع أفضل حالاً، فمن بعد رفع المزارعين الصرخة احتجاجاً على صعوبة تصدير المنتجات اللبنانية براً، وارتفاع كلفة النقل بحراً. ها هي "الصادرات إلى الأسواق الخليجية تتوقف كلياً"، يقول رئيس تجمّع الفلّاحين والمزارعين في البقاع ابراهيم الترشيشي، كاشفاً عن أنّ "خسارة لبنان جراء هذا الواقع تقدّر بأكثر من مليونَي دولار في اليوم الواحد. وهذا ما يرتّب على المزارع اللبناني كساد انتاجه، ويهدّد الزراعة في الصميم، وستكون النتائج كارثية". وبالإضافة إلى الخسائر المادية، فإنّ "المصدّر بدأ يخسر أسواقه ومكانته وسمعته وشهرته، التي أسهم في تأسيسها منذ أكثر من 50 سنة"، بحسب الترشيشي. وعلى غرار حال الصناعة، حلّت منتجات دول أخرى مكان المنتجات اللبنانية في الأسواق العربية، أولاً بسبب الانقطاع فترات طويلة، وثانياً، والأهم، بسبب انخفاض سعرها مقارنةً بأسعار البضائع اللبنانية نتيجة الاختلاف الكبير في أسعار النقل.

موسم صيفي واعد، إلّا إذا!

على مستوى القطاعات الخدماتية عادت المؤشرات السياحية لتنخفض مع انتهاء عيدي الفصح والفطر. إذ يلحظ رئيس نقابة وكالات السياحة والسفر جان عبود تراجع ملاءة الطائرات القادمة إلى بيروت من 90 إلى 95 في المئة في فترة الأعياد، إلى 70 في المئة راهناً". وهذا التراجع بنسبة 20 إلى 25 في المئة، ينعكس بنسب متفاوتة على مختلف القطاعات السياحية، وأكثر ما يتأثر به هما قطاعا الفنادق وإيجار السيارات. فقد تراجعت نسبة الأشغال في الفنادق إلى مستوياتها الدنيا، وتراجع الطلب على السيارات ذات اللوحات الخُضر، في حين استطاع قطاع المطاعم الحصول على نسبة حجوزات مقبولة. خصوصاً في عطل نهاية الأسبوع. أمّا بالنسبة إلى موسم صيف 2024، فـ "المؤشرات إيجابية إلى حد كبير"، بحسب عبّود. فنسبة الملاءة على الطائرات الواصلة ستتجاوز 100 في المئة، ومن المحتمل تشغيل رحلات إضافية". بيد أنّ عبود يتدارك سريعاً ويلفت إلى أنّ "هذه التوقعات الإيجابية تبقى رهن الأوضاع الأمنية على نحو أساسي. فإذا تصاعدت وتيرة الحرب واتّسعت رقعتها، فإنّ الحجوزات تتراجع والمؤشرات الإيجابية تنقلب سلبية".

التعويل على القطاعات الإنتاجية في ظلّ انهيار القطاعات الخدماتية من مصرفية وتعليمية واستشفائية وسياحية خيّب آمال الجميع. فهذه القطاعات "تقف على كف عفريت" الاقتصاد الأسود الذي يتّسع بشكل مطرد، ويخيم فوقها شبح حرب أشدّ سواداً يهدّد البنى التحتية ويقطع الأوصال مع الدول العربية. والغائبة الأولى تبقى الدولة.