أذابت اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين المنعقدة في واشنطن الجليد عن جبل المفاوضات مع لبنان. فـ"الصندوق" الذي أطفأ محرّكاته، ولاذ بالصمت عقب آخر زيارة له إلى لبنان في أيلول 2023، التقى المسؤولين اللبنانيين في السلطتين المالية والنقدية على هامش الاجتماعات. وإذا كان من المؤكّد أنّ العودة إلى المفاوضات بشأن الحصول على التيسير المالي مرهونة بتنفيذ لبنان للشروط المسبقة، فإنّ الخشية من التفاف السلطة على الإصلاحات واستمرار تحميل المواطنين عبء الانهيار، تزداد.

تمثّل المفاوضات المباشرة وغير المباشرة التي ستحصل مع صندوق النقد الدولي في اجتماعات الربيع نقطة تحوّل كبيرة للبنان. وهناك سيناريوان مفترضان لا ثالث لهما، بحسب الخبيرة في التنمية الاقتصادية فرح الشامي:

- الأول، استكمال المفاوضات المبنية على تنفيذ لبنان الشروط المسبقة المُقرّة في الاتفاق المبدئي على صعيد الموظفين مع صندوق النقد.

- الثاني، لبنان من دون صندوق النقد.

الفرق في النتائج "سيكون كبيراً جداً" برأي الشامي. "والعواقب ستمتد إلى سنوات طويلة. ذلك أنّ إهمال الإصلاحات البديهية التي كان يجب على السلطات اللبنانية اتخاذها فور استشعارها بالانهيار النقدي والمالي والاقتصادي، لم تُطبّق برغم مرور أربع سنوات على اندلاع الأزمة. كما لم يبدِ المسؤولون اللبنانيون النية في المحاسبة، والإرادة الجدية لاتخاذ الإجراءات الرادعة والعقابية على مختلف الصعد النقدية والمالية. والأسوأ أنّهم شوّهوا الإصلاحات القليلة التي أقرّت بقوانين. وميّعوا تنفيذها من خلال إهمال وضع الآليات التطبيقية. وهذا ما أوصل الأزمة إلى عمق لم يعد بالإمكان الخروج منه إلّا بالتعلّق بحبل صندوق النقد "الزلق". وذلك برغم كلّ الملاحظات على سياسات الصندوق المتّبعة مع مختلف الدول بشكل عام، ومع لبنان بشكل خاص".

تكاليف إعادة الهيكلة

الخبيرة في التنمية الاقتصادية فرح الشامي

بمعزل عن الشقّ النقدي الإشكالي الذي يشترط فيه "الصندوق" عدم تحميل الدولة مسؤولية الخسائر المالية في القطاع المصرفي، لكونها تخفض إمكان تحقيق النمو وخدمة الديون الجديدة، فإنّ هناك مخاوف من الإجراءات التي يطلبها لضبط أوضاع المالية العامة. فتحت عنوان: "إطار مالي موثوق به على المدى المتوسط، أو credible medium time fiscal framework" يشترط صندوق النقد مجموعة من التدابير على البلاد الراغبة في الدخول إلى برنامج إعادة هيكلة معه.

يأتي في مُقدِّم هذه الشروط "التقشف الاقتصادي"، تقول الشامي. "والطلب بإعادة هيكلة الديون الكبيرة التي لا تصبّ في مصلحة الدولة. لأنّ العملية لا تتضمّن التخفيف من بعض الديون، أو شطبها، وتخفيض الرسوم الإضافية (غرامات تدفع في حال التأخّر عن السداد) والفوائد المتراكمة، إنّما الحصول على المزيد من الديون لتسديد الديون القديمة". وعليه، تدفع البلد إلى استمرار الدوران في ما اصطلح على تسميته بـ "فخ المديونية. وكثيراً ما تستخدم هذه الآلية للضغوط السياسية وفرض الشروط". وأكثر ما يثير الخشية في هذه المرحلة هو أن "تصبح قيمة الانفاق على الديون وفوائدها أكبر ممّا ينفق على الحماية الاجتماعية". وهذه النقطة تحديداً تثير الخلافات مع صندوق النقد الذي "يحاول إعطاء التنمية الاقتصادية الأولوية وخلق فرص العمل على حساب نوعية النمو الاقتصادي وتوزيع نتائج النمو توزيعاً عادلاً".

الخوف على الأمن الاجتماعي

الطريقة التي يعالج بها صندوق النقد المشكلات الاقتصادية تؤدّي، إذاً، بحسب ناشطين في المجتمع المدني، إلى خلق مشكلات اجتماعية. وبالإضافة إلى التقشف، وزيادة المديونية، تبرز الخصخصة بديلاً لتحقيق الإيرادات واستيلاد فرص العمل. وبرغم أهمّية إدارة القطاع الخاص للمرافق من باب الحرص على الحوكمة الرشيدة وتقديم أفضل الخدمات بأقلّ التكاليف الممكنة لضمان استمراره وتعظيم استثماراته، يفضي غياب المنافسة، ودخول المتنفذين في المشاريع كـ "شريك مضارب"، إلى تعزيز العمالة غير النظامية والتحكّم بالأسعار، واستمرار الفساد، وتغييب الحماية الاجتماعية.

لبنان بين خيارين

بين استحالة الخروج من الانهيار من دون "ختم" صندوق النقد الدولي على برنامج الإصلاح الهيكلي، والمخاوف على الأمن الاجتماعي بسبب سياساته الاقتصادية، يبقى الحلّ داخلياً. وبإمكان الدولة أن تقرّر "إعادة هيكلة الديون بشكل منظّم" برأي الشامي، من خلال تخفيض بعض الفوائد والإعفاء من بعضها الآخر، وتأخير المدفوعات وإطالة الزمن. والأهمّ أن لا تُعاد الهيكلة على حساب المواطن اللبناني. خصوصاً أنّ الأموال التي ستأتي من صندوق النقد والبنك الدولي، هي ديون إضافية. وفي حال عدم تحقيق الإصلاحات بشفافية فإنّ كلّ دولار جديد من الديون، سيمحو مقابله دولاراً ممّا تبقى من ودائع. لأنّ الدولة تستخدم أموال المودعين للإنفاق ولا تعيدها. ولدى زيادة عبء الدين ستمتدّ اليد مجدّداً على أموال المودعين".

عمد لبنان خلال السنوات الماضية إلى رفع الدعم وإحلال برامج حماية اجتماعية محله.

"الشروط الحميدة" وحدها لا تكفي

من الواضح أنّ الصندوق متجه صوب "الشروط الحميدة"، أي تلك التي تركّز على تخفيف أضرار الإصلاحات عن الفئات الضعيفة. ولا سيما مع الدول التي تعاني من اقتصاد سياسي معقد وزبائنية وطائفية. فهو يطالب على سبيل المثل لا الحصر، بالسجل الاجتماعي الموحد، وتوحيد برامج الدعم لتحقيق التكامل، واشتمال الإصلاحات القطاعات الخدماتية. إنّما على المقلب الآخر، فإنّ الصندوق بفضل التقشّف في الإنفاق العام بدلاً من اشتراط سياسات ضريبية إصلاحية"، بحسب الشامي. "كاعتماد الضريبة التصاعدية على مداخيل الأفراد والشركات، وهو الموضوع الأساسي لحلّ كلّ المشكلات. ويتصدّى لتخفيف الضرائب غير المباشرة، مثل الضريبة على القيمة المضافة". فيما الإصلاحات الحميدة، إن وجدت على صعيد الضرائب والكهرباء، تكون عادةً إدارية على غرار إدارة الضرائب وجمعها، من دون إبداء الاهتمام بالشقّ التقني المتعلّق بنوع الضرائب المفترض رفعها، وتلك الواجب خفضها، وكيف يمكن توسعة القاعدة الضريبية. "من دون أن ننسى أنّ الصندوق يدعو إلى تخفيض نسبة المساهمات أو حصّة الاشتراكات الخاصّة بأرباب العمل في الضمان الاجتماعي والصناديق الضامنة والعديد من التدابير المجحفة بحق العمّال"، تضيف الشامي.

المفاوضات مع البنك الدولي، ميسّرة

أمّا في ما يتعلّق بالمفاوضات مع البنك الدولي فهي مفعّلة بشكل كبير. وقد عمد لبنان خلال السنوات الماضية إلى رفع الدعم وإحلال برامج حماية اجتماعية محله. إنّما المشكلة تكمن في أنّ التعاون مع البنك الدولي يراكم الديون من جهة، ويفتقر إلى تقدّم الحماية الاجتماعية الحقيقية، من جهة ثانية.

كثيراً ما تكون المشكلات الكبرى كامنة في الدولة المحتاجة إلى المساعدة. ولعلّ عدم تنفيذ الشروط الإصلاحية بشكل صحيح من بعد إقرارها يولّد أزمات أكبر من تلك التي كانت قائمة. خصوصاً أنّ الإجراءات المتّخذة تضعف مناعة الاقتصاد، وتعرّضه اكثر للأوبئة. فينهار بشكل أسرع، ويغرق في حفرة لا يعود بالإمكان الخروج منها. وهذا واضح في الكثير من الدول، منها الأرجنتين على سبيل المثال. من هنا فإنّ المسؤولين أمام فرصة حقيقية لإعادة تفعيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فإمّا التقاطها وتنفيذها بشفافية وإمّا استمرار الغرق في المجهول.