في 13 تشرين الأول من العام الماضي، أُغلقت البئر الاستكشافية في "حقل قانا" بعد أقلّ من شهرين على بدء عمليات الحفر. الكونسورتيوم المنقّب بقيادة "توتال" الفرنسية، ومشاركة كلّ من "إيني" الايطالية و"قطر للطاقة" لملم معدّاته على عجل وغادر لبنان، على وعد إرسال التقرير النهائي في غضون ستة أشهر كما يقتضي العقد. و"هذا هو وجه الضيف"، على قول المثل الشعبي اللبناني. إذ بحسب آخر المعلومات لم يتسلّم لبنان بعد نتيجة الحفر، رغم أنّ المهلة تنتهي بعد الأعياد، مطلع الأسبوع المقبل.

تتعامل الشركات العابرة للقارات مع لبنان بشيء من الاستخفاف، وليس الاستعلاء كما يعتقد كثيرون. فهي تلمس بـ "اليد" حجم الفساد، ومحاولات المسؤولين "لحس إصبعهم" من الصفقات. وتستشعر الافتقار الكبير إلى الخبرات الفنية والعلمية في عمليات المفاوضات. هذا طبعاً عدا حالة اللااستقرار السياسية والأمنية والقضائية التي تعتبر من العوامل الأساسية الطاردة للاستثمارات. ولا يشذّ ملفّ التنقيب عن النفط الذي بدأ في العام 2019 في الرقعة البحرية الرقم 4 عن هذا المسار حيث حفل بالمماطلة، والتأخر بتسليم التقارير، وفقدان شهية الشركات العالمية للتقدّم إلى المناقصات، والانتظار حتّى اللحظات الأخيرة لسحب دفتر الشروط قبل إقفال باب دورات التراخيص.

سيصل وإنْ متأخّراً

ومع هذا كله، "لا مفر من تسلّم لبنان التقرير النهائي خلال هذا الشهر"، يجزم عبود زهر الاختصاصي في النفط والغاز ومستشار التدريب والإعلام في نقابة المقاولين والمتعاقدين الثانويين للأنشطة والخدمات البترولية في لبنان. "فالشركات الأجنبية تحترم العقود التي توقّعها وتلتزمها". بيد أنّ هذا التقرير المنتظر على أحرّ من الجمر "لن يحمل جديداً"، بحسب زهر. "وسيؤكّد عدم وجود الغاز والنفط، في هذا المكمن تحديداً. من دون أن يعني ذلك عدم إمكان وجود كميات تجارية في مكامن أخرى في الرقعة نفسها". وقد يتطلّب الأمر حفر 5 آبار لإصابة المكمن المجدي. ذلك على أساس أنّ نسبة وجود الغاز والنفط تبلغ 20 في المئة.

أهمية التقرير

"تُلزم اتفاقية الاستكشاف والإنتاج - EPA، الشركة المنفّذة تقديم تقرير تقني مفصّل يتضمّن أمرين أساسيين"، تقول عضو الهيئة الاستشارية للمبادرة اللبنانية للنفط والغاز –LOGI ديانا القيسي، وهما:

البيانات التي تمّ جمعها.

نتائج تحليل العيّنات المأخوذة من البئر التي وصل عمقها إلى 3900 متر.

أهمّية هذه البيانات أنّها "تُظهر تاريخ حوض قانا، من حيث نوع الترسبات، وكمية الغاز والنفط، وتاريخ تشكلها، وكيفية تكوينها... وإن كان هذا الحوض مشابهاً للأحواض أو الآبار المكتشفة في بحر فلسطين المحتلة"، تقول القيسي. "وهو ما يعطي الدولة اللبنانية صورة واضحة عن الرقع البحرية الجنوبية عامة، والرقعة الرقم 9 خاصة. ويتيح معرفة أنواع الخزانات الموجودة، وإمكان تحديد أماكن الحفر والتنقيب في المستقبل بصورة أدقّ للوصول إلى الخزانات التي تختزن الثروتين النفطية والغازية. والدليل على أهمّية هذه الداتا هو دفع الكونسورتيوم المنقّب ثمنها مبالغ مالية كبيرة. ذلك أنّها ببساطة تستطيع تصويب عمليات الحفر في المستقبل".

انتهاء الدورة الثالثة للتراخيص

في الأثناء، تُقفل في حزيران المقبل المهلة المفتوحة للدورة الثالثة للتراخيص التي أطلقت في كانون الأول من العام الماضي، من دون أن تتقدّم إلى اليوم أية شركة نفطية. مع العلم أنّ التراخيص تشمل أعمال البحث والتنقيب في جميع البلوكات التي ليس فيها حقّ حصري لأيّة شركة. أي البلوكات: 1 و2 و3 و4 في النصف الشمالي من المنطقة الاقتصادية الخالصة، والبلوكات 5 و6 و7 و8 و10 في النصف الجنوبي. وتربط الشركات العالمية مشاركتها في المناقصات المستقبلية بناء على المناخ الاستثماري الذي يتضمّن أقلّ نسبة من المخاطر". وتتنوّع المخاطر بين خارجية وداخلية. علماً أنّ "المخاطر الداخلية كثيراً ما تأخذها الشركات في الاعتبار، في حين أنّها لا تملك قدرة التأثير على الأمور الخارجية "، بحسب القيسي. "وترتبط نسبة المخاطر بقدرة الشركات على تمويل مصاريف الحفر، سواء بواسطة القروض المصرفية أو من رساميلها الخاصة. وعليه كلما ارتفعت المخاطر تقلّصت قدرة الشركات على تأمين التمويل للمصاريف التشغيلية. يضاف إلى هذه المخاطر بحسب القيسي "عدم وجود أي اكتشاف جدّي إلى اليوم يمكن البناء عليه ويشجع على المضي قدماً في عملية حفر الآبار الاستكشافية".

تراجع الشهية إلى الاستثمار في لبنان

من الواضح أنّ الشركات النفطية الأجنبية غير متحمّسة للسير قدماً في ملفّ التنقيب عن النفط في بحر لبنان بسبب ارتفاع المخاطر الأمنية الداخلية والخارجية. ففي العام 2020 وُضعت كل من "توتال" و"شلمبرجير" المتخصصتين في مجال خدمات النفط في مرفأ بيروت جنباً إلى جنب مع "النيترات" المتفجر. ولولا خروج الشركات مع انتهاء التنقيب في البلوك الرقم 4، باكراً من العام 2020، لكان أصابها ما أصاب الكثير من الشركات من دمار وقتل نتيجة انفجار 4 آب. واستمر هذا الواقع مع انفجار الوضع جنوباً في 8 تشرين الأول من العام الماضي بمحاذاة البلوكات الواعدة 8، 9 و10.

يضاف إلى هذه العوامل، "وجود اتفاقات معلنة وغير معلنة بين الشركات العالمية على تقاسم الحقول النفطية في أنحاء العالم"، برأي زهر. "بحيث تحجم عن منافسة بعضها بعضاً في الأسواق الموجودة فيها، أو يكون لديها نية مسبقة للاستثمار. وهو ما يرفع من احتمال عدم مشاركة أيّ شركات جديدة في الدورة الثالثة للتراخيص". والأكيد أنّ أيّة شركة لم تتقدم إلى اليوم لسحب دفتر الشروط من هيئة إدارة النفط للقيام بعملية البحث والاستكشاف. ولن تكون هناك أي عمليات جديدة خلال العام الحالي للكونسوريوم المنقب. "خصوصاً أنّ التحضير للاستكشاف يبدأ قبل أشهر من بدء العملية الفعلية. وهذا ما لا نلحظ له أي وجود إلى اليوم"، يقول زهر. "ومن الملاحظ أيضاً غياب لبنان على خرائط العمل لشركة توتال في أنحاء العالم خلال هذا العام".

المضي قدماً في الملف النفطي الذي افتتح بآمال كبيرة، واهية أحياناً كثيرة، يتطلّب تأمين الاستقرار المالي والاقتصادي والأمني قبل أي شيء آخر. لاحقاً قد يبني المستثمرون على نتائج "الداتا" المأخوذة من البلوك الرقم 9 أفعالاً جدية، تؤمّن الدخول من باب أكثر رحابة لمقاربة هذا الملف المهم بشكل موضوعي وشفاف.