مِهلةٌ وراء أخرى أعطيت للسلطة السياسية تمهيداً للبدء بالإصلاحات الجوهرية، قبل انهيار "هيكل" الاقتصاد كلّياً على "رؤوس البلاد والعباد". من دون الرجوع طويلاً في الزمان إلى مطلع الألفية الثالثة، واستحضار مؤتمرات الدعم، بدءاً بباريس 1 في العام 2001، وانتهاء بسيدر في العام 2018، سنكتفي باستذكار شروط نواب حاكم مصرف لبنان لعدم الاستقالة وتسلّم دفّة المركزي مع انتهاء ولاية رياض سلامة في تموز 2023. فالمهلة التي حُدّدت بـ 6 أشهر، انتهت مطلع العام، مثلما بدأت. وباستثناء إقرار موازنة 2024، لم يتحقّق شيء يذكر. ومع هذا عاد الحاكم بالإنابة وسيم منصوري لـ "يجرب المّجرب"، ويعطي السلطة نفسها، مهلة عام ونصف العام.

حذّر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في لقاء حواري مع مصرفيين وقادة أعمال نهاية الأسبوع الفائت، من أنّ لبنان أمام خطر وجودي إذا لم تقم السلطة بالإصلاحات خلال عام ونصف العام حدًّا أقصى. المفارقة أنّ منصوري قال بـ "عظمة لسانه" في اللقاء عينه، إنّ الحكومات والبرلمانات التي تعاقبت على الحكم منذ بداية الأزمة لم تنجز أي إجراء فعلي واحد. وهو يعلم أنّ هذا البرلمان الذي عطّل "الكابيتال كونترول" وأقرّ قانوناً منقوصاً لرفع السرّيّة المصرفية، وصوّت بطريقة فوضوية على موازنة 2024، مستمرّ إلى العام 2026، وقد تبقى حكومة تصريف الأعمال إلى ما شاء الله في ظلّ العجز الفاضح عن انتخاب رئيس للجمهورية، وتعقّد المسارات المحلّية والإقليمية. فعلى ماذا يراهن الحاكم بالإنابة؟ وهل ينفع شراء المزيد من الوقت لمثل هذه السلطة؟

الإصلاحات المحقّقة

من دون الغوص في التفاصيل، يمكن القول إنّ ما تحقّق من شروط نواب الحاكم: 3 أمور بديهية من حيث الشكل، وتنقصها الجدية في المضمون، وهي:

- إقرار موازنة 2024.

- ارتفاع إيرادات الخزينة إلى 266 مليون دولار شهرياً. وهو ما يفوق بأشواط، اشتراط وصولها إلى ما بين 240 و288 مليون دولار سنوياً.

- تحقيق الاستقرار النقدي. إذ تمّ تثبيت سعر الصرف مرة جديدة عند 89500 ليرة بطريقة اصطناعية. إذ ما زال المركزي يسدّد كتلة الرواتب والأجور للقطاع العام بالدولار، ويمنع الدولة من استعمال ما تجبيه من الليرات كيلا تخلق طلباً مباشراً أو غير مباشر على الدولار. ويضع ضوابط قاسية على تسييل الليرات من المصارف التجارية.

ما خفي أعظم بكثير

ما تحقّق من شروط إصلاحية كان "رأس جبل الجليد" الإصلاحات المطلوبة، وما خفي أعظم بكثير. فلم يقرّ "الكابيتال كونترول"، ولم يُحرّر سعر الصرف، ولم تُقرّ إعادة التوازن المالي وإعادة هيكلة المصارف، ولم تُطلق منصّة "بلومبيرغ" التي على أساسها يجب أن يتحدّد سعر الصرف بطريقة واضحة وشفافة. وليس هنالك إلى الآن أيّ إشارات جدّية إلى إمكان إقرار هذه الشروط الإصلاحية الأساسية قريباً. ذلك أنّ إهمال هذه الإصلاحات "ساهم في تلبية مصالح كبيرة جداً"، برأي الحاكم السابق لمصرف لبنان الدكتور غسان العياش. "فأُجّلت محاسبة المسؤولين عن الانهيار، وأُجّلت الإفلاسات في القطاع المصرفي، وتمّ تحويل مبالغ مالية إلى الخارج لأشخاص غير مستحقّين".

في المقابل، فإنّ مصرف لبنان "اتخذ إجراءات للجم التدهور النقدي، ووقف إفلاس المصارف من خلال تعاميم غير قانونية وغير دستورية"، بحسب العياش، "وينتظر الآن تحديد سعر صرف جديد للسحوبات النقدية من حسابات "اللولار" من خارج التعميمين 158 (يتيح سحب ما بين 300 و400 دولار نقداً من الحسابات المكوّنة قبل تشرين الأول 2019)، و166 (يتيح سحب 150 من حسابات الدولار المكونة بعد تشرين الأول 2019. ولم يبدأ تطبيقه بعد) ومن المرجح أن يعتمد سعر 25 ألف ليرة بدلاً من 15 الفاً. وقد ساعدت هذه التعاميم على امتصاص النقمة الشعبية على السلطة السياسية وأتاح لها المجال مراراً وتكراراً في الهروب من الإصلاحات الجوهرية. "وهي الإصلاحات التي تقع مسؤولية تطبيقها في النهاية على الحكومة ومجلس النواب وليس على مصرف لبنان"، بحسب العياش.

المركزي يشتري الوقت لنفسه أيضاً

في الشكل الذي تظهر فيه سياسة مصرف لبنان أنّها "تشتري" المزيد من الوقت للسلطة السياسة، هي بالحقيقة تشتري الوقت لحساب المركزي والقيمين عليه أيضاً"، بحسب العياش. فالمركزي معني بالانهيار النقدي فيما لو أوقف اجراءاته الرادعة التي يتّخذها. ولذا يحاول تأجيل انفجار الأزمة قدر الإمكان حتّى لا يتحمّل مسؤولية انهيار سعر صرف الليرة". علماً أنّ المسؤولين الذين يتعمدون تأجيل الانهيار منذ 30 عاماً، "دفّعوا ثمن التأجيل هذا، للبلد"، باقتصاده وشعبه وقدرة مواطنيه الشرائية وأمانهم الاقتصادي والاجتماعي وقدرتهم على الوصول إلى أبسط الحقوق من تعليمية واستشفائية".

ما الذي يمكن أن يتغير بعد عام أو حتّى عامين؟

"يراهن الحاكم بالإنابة على تسوية ما في المنطقة، ستشمل لبنان حتماً. ذلك أنّ المنطق يفترض أن يكون الحلّ شاملاً ومتكاملاً"، يتوقّع الأستاذ المحاضر في قانون الضرائب والمالية المحامي كريم ضاهر. "وممّا يُقرأ ما بين سطور كلمة الحاكم في "اللقاء"، اعتباره أنّه أنجز المتوجب عليه من الخطوات الإصلاحية، والباقي لم يعد من مسؤوليته. وعاد ليضع إطاراً لخطّة العمل في المستقبل، حدودها:

- عدم استعداده لتفليس المصارف من خلال تطبيق القوانين المصرفية والتضحية بأموال كلّ المودعين ما دام ليس هنالك حلّ موازٍ يضمن الحقوق.

- موافقته على خطّة الانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف مشروطة بتقصّي الحكومة أرقاماً واقعية، من خلال التمييز الجدّي بين الودائع المشروعة وغير المشروعة، ومن بعد تحقيق شرط المحاسبة واسترداد الفوائد الفاحشة.

- التأكيد على نهج عدم تمويل الدولة. يساعد على ذلك تمكّن الدولة خلال الآونة الأخيرة من ضبط نفقاتها.

- تقليص الهدر في المالية العامة ومكافحة الهدر المجدي.

- الإنفاق على قدر الجباية.

استطاع مصرف لبنان خلال الأشهر الثمانية الماضية لجم الانهيار، أقلّه على صعيد سعر الصرف، الذي ينعكس بصورة مباشرة على التضخم والقدرة الشرائية للمداخيل. كما حقّق فائضاً في احتياطي العملات الأجنبية بمقدار مليار دولار تقريباً، "سيمكّنه من الاستمرار في لجم الانهيار لفترة محدّدة، إذا لم يستجد ما هو خارج الحسبان"، برأي ضاهر. ساعده على ذلك التزام الحكومة سقف إنفاق لا يتخطّى ما تجبيه من أموال، والمقدّر شهرياً بنحو 266 مليون دولار (الإيرادات المتوقّعة في موازنة 2024 مقسومة على 12 شهراً). ودوران العجلة الاقتصادية من دون إنفاق استثماري وانحصار النفقات بالتشغيلية. وتمكّن القطاع الخاص من استعادة التوازن والانطلاق من جديد... وعليه لا يوجد في ظلّ هذه الوقائع خطر انزلاق نحو المجهول وتحقيق خسائر كبيرة. إنّما في المقابل تُعتبر هذه العوامل مؤقّتة وغير ثابتة، "واستمرارها لا يُعدّ دليل صحّة للاقتصاد"، بحسب ضاهر. "فالاقتصاد منكمش، ويدور في حلقة مفرغة قد تنقطع حلقاتها عند أيّ حالة غير محسوبة وينزلق بالتالي إلى الانهيار التام". ومن هنا جاءت الدعوة إلى تبنّي الإصلاحات الشاملة والضرورية للانطلاق في عملية التعافي المالي بالسرعة الممكنة.

لعلّ أكثر ما يثير الخشية هو الطبيعة "المطاطة" للاقتصاد عموماً، وللاقتصاد اللبناني خصوصاً. فكلّما قلنا إنّ رباط الاقتصاد شارف الانقطاع، فاجأنا بالمزيد من "التمطّط"، مرة بوصول حقوق السحب الخاصة، ومرة بقروض البنك الدولي، ومرة بزيادة احتياطيات النقد الأجنبي. ومن غير المستبعد أن تكون السلطة تراهن على احتياطي الذهب الموجود في لبنان والمقدّر بنحو 12 ملياراً من أصل 18.2 مليار بغية الاستمرار على النهج نفسه بضع سنوات مقبلة.