افتقد اللبنانيون في خضمّ أعتى أزمة اقتصادية تواجه البلد على الإطلاق، مظلّة الحماية الاجتماعية. فرياح إهمال تجديد القوانين وتعديلها مع المتغيّرات على مرّ السنين، "شلّعت" أضلاع "المظلّة"، وقوّضت أطرافها. وعندما هبّت عواصف الأزمة وجد المستخدمون والعمال أنفسهم من دون تغطية قانونية في الكثير من المواضع، وفوجئوا بعدم فعالية التشريعات وتقادمها في مواضع أخرى. ومن أكثر القوانين "المُفتقدة" يبرز قانون العمل، الذي وُجد أساساً لحماية العمّال وتنظيم العلاقات بين أطراف الإنتاج.

قانون العمل اللبناني الذي شكّل انتصاراً للعمّال والنقابات عند إقراره في العام 1946، تقادم. ولم يعد في الكثير من بنوده يتماشى مع المتغيّرات البنيوية في علاقات الإنتاج التي نشأت بفعل التطوّرات التكنولوجية العالمية، من جهة أولى. وعجز من جهة ثانية عن حماية العمّال وصون العلاقات محلّياً تحت وطأة الانهيار. خصوصاً أنّه طوال 78 عاماً من "عمره المديد"، لم يُدخل عليه إلّا 15 تعديلاً. وباءت بالفسل الذريع المحاولات العديدة للحركات النقابية والعمّالية والمنظّمات الحقوقية في إدخال تعديلات أساسية على القانون لجعله أكثر عدالة وشمولية في حفظ حقوق العمال والعاملات.

مواد في قانون العمل لا تتلاءم مع المرحلة الراهنة

يتضمّن قانون العمل اللبناني موادَّ لم تعد تتلاءم مع متطلّبات المرحلة مثل المادة 7 والمادة 50. تستثني المادة 7 كلّاً من: الخدم في بيوت الأفراد، والنقابات الزراعية، والمستخدمين والعمال المؤقّتين في الإدارات الحكومية والبلديات من قانون العمل. وهذا ما يتناقض مع مبدأ "شمولية القوانين"، بحسب المدير التنفيذي للمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين الدكتور أحمد الديراني. في حين تعتبر المادة 50 المتعلّقة بالصرف من العمل، قاصرة عن حماية المصروفين تعسّفاً. فهي تنصّ على إعطاء العامل، إذا كان فسخُ العقد صادراً عن صاحب العمل، تعويضاً لا ينقص عن أجر شهرين ولا يزيد عن اثني عشر شهراً. وعليه، فإنّ أرباب العمل، ولا سيّما في القطاع المصرفي، يصرفون المستخدمين والعمّال على أساس الحدّ الأدنى للأجور البالغ 9 ملايين ليرة أو الرّاتب المصرّح عنه للضمان الاجتماعي، والذي لا يتجاوز في أكثرية المؤسسات 20 مليوناً.علماً بأنّ أقصى تعويض يمكن أن يحصل عليه المستخدم يراوح بين 108 ملايين ليرة و240 مليوناً. أي ما بين 1000 و2600 دولار. وذلك بعد 20 سنة من العمل. وتنصّ الفقرة (ب) من المادةّ نفسها على أنّه يجب على العامل رفع دعوى الصرف التعسّفي أمام مجلس العمل التحكيمي ضمن مهلة شهر واحد منذ تاريخ تبلّغه الصرف. كما يقع عليه إثبات أنّ الصّرف تعسّفي. وبشكل عام، فإنّ المادة 50 لا تتضمّن، بحسب الديراني، "إجراءات رادعة بشكل كافٍ لحالات الصّرف التعسّفي".

القانون تمييزيّ وإقصائيّ

إضافة إلى النّقص في المواد يعتبر الديراني أنّ "قانون العمل لا يأخذ في الاعتبار المتغيّرات في سوق العمل منذ العام 1946، تاريخ صدور القانون، إلى اليوم. فهو لا يشمل عمّال التطبيقات وعمّال التوصيلات. ولا يأخذ في الحسبان نشوء أشكال جديدة في علاقات العمل، منها العمل عن بعد، وعقود العمل الجزئية والمؤقّتة، وعقود العمل الاستشارية". كما يعتبر القانون تمييزياً بحقّ ذوي الإعاقات الجسدية واللاجئين والنساء والعمال المهاجرين وغيرهم من الفئات المهمّشة. "وإن كان لا يتضمّن موادَّ ضدّ هذه الفئات، فهو لا يحتوي على مواد تحميها"، بحسب الديراني. فالقانون 220/ 2000 الذي شرّع العمل لأصحاب الهمم لا يطبّق. وليس في قانون العمل أيّ نصّ يتطرق إلى كيفية حماية هذه الفئات، وضمان سلامة بيئة العمل، وإدخال التحسينات المطلوبة إليها". وعليه، فهو "تمييزي وإقصائي".

لا يؤمّن قانون العمل اللبناني القوّة الكافية للعمّال والموظفين للدفاع عن حقوقهم. فهو يتضمّن موادَّ تقيّد عمل النقابات وتخالف اتفاقات منظّمة العمل الدولية (الاتفاقية 87 تنصّ على: الحق في تأسيس النقابات، والانتساب بشكل مستقلّ عن السلطات وتدخّلها في القطاعين العام والخاص)، وتمنع إنشاء النقابات إلّا بإذن مسبق. وحرمانها الاستقلالية المطلوبة"، بحسب الديراني. وإخضاعها للرقابة الدائمة وإمكانية حلّها بسهولة (بناء على المرسوم 7993 الصادر في العام 1952). وعليه، هناك العديد من المواد التي تتعلّق بالتنظيم النقابي يجب إلغاؤها أو تعديلها وسنّ تشريعات جديدة أكثر مواءمة مع متطلّبات سوق العمل وظروف المرحلة".

تجديد القانون

لم تتوقّف المحاولات النقابية والمدنية والحقوقية الداعية إلى إصلاحات جذرية في قانون العمل والتشريع. وقد شهدنا أخيراً اهتماماً متزايداً وأنشطة متعدّدة لمنظّمات دولية، واتحادات نقابية، ونقابات عمالية، وهيئات وجمعيات محلية... غالبيتها تطرح تعديلات جزئية أو قطاعية تمثّل مصالح الفئات والقطاعات. "وهذا الجهد حقّ لها وضرورة"، برأي الديراني. ولا سيّما أن العدالة الاجتماعية والقانونية يجب أن تؤخذ من وجهة نظر شاملة، وليس من خلال تجزئة الحقوق، اعتماداً على قيم الشمولية والمساواة والإنصاف. وانطلاقاً من هنا يقول الديراني: "بادرنا مع "شبكة عملي" و "حقوق" و "التجمع الوطني من أجل نقابات حرة" بالدعوة إلى توحيد الجهود في الورشة التي عقدت في تشرين الثاني من العام 2022، والتي شارك فيها ممثلون لمنظّمات نقابية وجمعيات مدنية محلية ودولية. وتقرّر اعتماد جهود المناصرة التي تهدف إلى التعبئة وتنسيق الجهد بين جميع النقابات والاتحادات العمالية والمنظمات الشريكة في سعيها إلى تعديل قانون العمل. وذلك من أجل دراسة الآثار السلبية لقانون العمل الحالي على جميع الفئات والقطاعات. ومن أجل صياغة تشاركية لتصوّر شامل لقانون عمل اجتماعي وانساني يواكب المتغيّرات في علاقات العمل".

الجهود التي تُبذل لتعديل قانون العمل لا تزال نخبوية إلى حدّ ما، ليس بسبب استئثار النخب بالإصلاح، إنّما لتغييب الشرائح العمالية والنقابية نفسها عن المشاركة الفاعلة في الحياة الاجتماعية. فعلى الرّغم من وجود حوالى 600 نقابة و64 اتحاداً تنضوي تحت راية الاتحاد العمالي العام، فإنّ تأثيرها في الاقتصاد الاجتماعي يكاد يكون معدوماً. قسم كبير من النقابات والاتحادات شُكّل سياسياً لأغراض انتخابية وليس للدفاع عن مصالح العمّال وحقوقهم. وعلى غرار مختلف المؤسسات الخاصة والعامّة، فإنّ الحياة النقابية بحاجة إلى إعادة هيكلة جذرية لتدخل مجدداً معركة الشأن العام وتدافع عن مصالح العمال والموظّفين.