أصبح لبنان بلد الفراغ الرسمي، فمؤسساته مشلولة، وحكومته تصريف أعمال، ومجلس نوّابه عاجز عن التشريع، ورئاسته دون رئيس، ومراكزه تُدار بالإنابة، أمّا بلدياته فمُنحلّة، بعد تأجيل انتخابات البلدية في العام 2022 (معظم مجالس انتُخبت في العام 2016) لتزامنها مع الانتخابات النيابية، ومن ثمّ مُدّد للبلديات في أيّار 2023، ليرتفع عدد البلديات المحلولة، وفقاً لأرقام وزارة الداخلية من 104 بلديات قبل التمديد، إلى 119 مع نهاية العام 2023، من أصل 1044، (أيّ أكثر من 10% من البلديات منحلّة)، في حين أن القسم الآخر لا يجتمع في ظلّ غياب جدول أعمال مع محدوديّة الأموال المخصّصة للبلديات.

وغياب دور البلديات – المسؤول الأوّل عن تطوير المدن والقرى والاهتمام بشؤون المواطنين وتلبية حاجاتهم من إنارة، وتعبيد طرق وصيانة مجارير الصرف الصحي إلخ - دفع ثمنه المواطن اللبناني الذي وقع كبش محرقة في يد سلطة تنهش في لحمه لحسابات شخصية ضيقة.

وأكبر مثال ما يحصل في بلدية الجديدة – البوشرية – السد "حيث تقدّم 11 عضواً من أصل 21 باستقالتهم بعد 5 سنوات و10 أشهر، أي قبل شهرين من موعد الانتخابات لاعتبارات سياسية مرتبطة بمسألة اتحاد البلديات، واتهام رئيس البلدية أنطوان جبارة بالإثراء غير المشروع، فيما كان من الممكن محاسبته عبر الانتخابات أو القضاء، بدل أن تصبح البلدية معلّقة وتحت وصاية محافظ جبل لبنان محمود مكية"، بحسب مصادر مطّلعة تحدثت إلى "الصفا نيوز".

المنطقة تغرق والبلدية: ادفعوا وإلّا

في هذا الإطار قال فادي حنّا، كوافير نسائي، يملك محلّاً في منطقة سدّ البوشرية، "منذ أوّل نقطة مطر مع بداية فصل الشتاء، عامت الطرق في المنطقة، فغرقت الشوارع بمياه الأمطار، التي تسلّلت إلى داخل المحالّ ومداخل المباني، حتّى أنّه لم يعد لدينا مواقف، مع استحالة ركن سياراتنا في الشارع، بسبب ارتفاع منسوب المياه، التي قد تعوّم السيارات وتعطّلها، وأصبح الدخول والخروج من المباني وإليها صعباً جداً".

ونتيجة هذا الواقع المرير، يتابع حنا، "تواصل عدد من أهالي الحيّ مع البلدية، بغية إيجاد حلّ لمسارب المياه وفتحها، إلاّ أننا فوجئنا بمطالبة البلدية سكّان الحي بدفع مبلغ 60$ للقدوم وفتحها، على الرّغم من أننا كسكّان المنطقة وكأصحاب محالّ نسدّد واجباتنا الماليّة تجاه البلدية في كلّ عام على أكمل وجه. وبعد أن دفعنا المبلغ المطلوب للبلدية تمّت معالجة المشكلة، وبعد أقلّ من شهر ونصف عادت الطرقات لتطوف من جديد، وعليه، عدنا وتواصلنا مع البلدية، التي طالبتنا هذه المرّة بدفع 100$، ولبينا الطلب".

إلّا أنّ المشكلة بحسب حنا، "لا تكمن في مسارب المياه وتصريفها فقط، بل بالبنى التحتية حيث يجب توسعة الأنابيب لتستوعب كمّية أكبر من المياه، ويجب إعادة تفعيل دور عمّال النظافة لتنظيف الطرق كي لا تتسرّب النفايات إلى داخلها وتسدّها".

عدم قدرة البلديات على القيام بمهامها يفتح الباب أمام ملفّ ماليّة البلديات

انتخابات البلدية ضرورة ملحّة

في سياق متّصل، تواصل "الصفا نيوز" مع عضو بلدية الجديدة – البوشرية – السد، السابق، كميل واكيم، الذي قال "منذ حوالى الـ11 شهراً، استقال بعض أعضاء البلدية ونفّذ هذه الاستقالة وزير الداخلية بسام مولوي الذي حلّ المجلس ولم يعد لدينا كأعضاء صفة خاصة أو رسمية بالبلدية. واليوم، فإنّ المسؤولية بيد محافظ جبل لبنان، محمود مكية، الذي يواجه صعوبة في صرف الأموال، وهو بدوره مسؤول عن 25 بلدية أخرى في محافظة جبل لبنان، ويحاول تأمين يوم واحد في الشهر للمنطقة، وبالتالي لا يسمح وقته بأن يحلّ مشاكل جميع المناطق، وهذا ما يراكم المشاكل".

ولم ينكر واكيم المعلومات التي حصل عليها "الصفا نيوز" من أهالي السدّ، وقال "سمعنا أنّه يتمّ الطلب من الناس دفع المال لتأمين المازوت المطلوب لتشغيل الآلات لفتح المجارير، لكون البلدية تواجه مشاكل في صرف الأموال نتيجة الضغط المفروض من قبل وزير الداخلية"، مشدّداً على أنّ "البنى التحتية في منطقة البوشرية والسد والجديدة تحتاج إلى إعادة ترميم، فعمرها يعود لأكثر من 60 عاماً، وهي لم تعد صالحة للاستخدام. علماً أنّ المناطق الساحلية جميعها تعاني المشكلة نفسها، وكنا قد تقدّمنا بدراسة حول هذا الموضوع، فهناك سيول قوية وغزارة في مياه الأمطار، تجرف البحص والنفايات وتسدّ المجاري. إلاّ أنّ إمكانات البلدية اليوم كغيرها من البلديات لا تسمح بأكثر من محاولة فتح مجرور".

والمشكلة، برأيه "لا تكمن في المبالغ الملحوظة للبلديات في الموازنة، بل كذلك في قلة ثقة المتعهّدين بالدولة، وتفضيلهم عدم تقديم عروض، بسبب طريقة التعامل والدفع غير المضمون. فأيّ مواطن يريد تقديم عرض للبلديات يعي تماماً أنّ عليه الانتظار لتسلم أمواله كاملة (أي ما تبقّى من المبلغ ونسبته 15% من مجمل الكلفة) حوالى 6 أشهر وأحيانا سنة كاملة، ريثما يتمّ التأكّد من أعمال الصيانة، وتأمين صرف الأموال. وكنّا، بصفة كوننا أعضاء سابقين، قد راسلنا المحافظ وتمنينا عليه تسهيل المشكلة على المواطنين، فنحن أيضاً من سكّان هذه المنطقة ونقطنها، ونشعر بمعاناة أهلها". وقال "خطأ فادح أن تطالب البلدية المواطنين بدفع بدل فتح المجارير وهم يدفعون متوجباتهم المالية السنوية للبلدية. وما يحصل هو أنّ أهالي المنطقة يخابرون المحافظ بواسطة الشخص المنتدب والذي هو صلة الوصل بينهم وبين المحافظ، ويفاجأون بأن لا ردّ إيجابياً على المشكلة، ليأتي الجواب بعد 15 يوم تأخير بطلب دفع رسوم لأن البلدية عاجزة عن تأمين المال".

وجوب إقرار إصلاحات مالية وإدارية

وبعيداً عن مسألة وجوب إجراء الانتخابات البلدية، هناك العديد من الإصلاحات المالية والإدارية التي يجب إدخالها إلى البلديات حتّى أن بعضها مرتبط بهيكلية الأخيرة، وهو ما يؤكّده القاضي إيلي معلوف لـ "الصفا نيوز".

فمعلوف الحاصل على دكتوراه في الإصلاحات المالية العامّة، أعدّ مشروعين في هذا الإطار بالتعاون مع منظمة DRI (المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية). وشرح أنّ "المشكلة الرئيسية التي تعانيها البلديات هي مشكلة مالية إذ لا إمكانات كافية لتحصيل ضرائب ورسوم تلبّي حاجات البلديات الأساسية كالرواتب والتنمية المحلية. فما كانت تجبيه البلديات سابقاً كان يكفيها للصمود بمساندة الصندوق البلدي المستقلّ. ومع بقاء الرسوم على حالها وتدنّي قيمة الليرة بعد الأزمة الاقتصادية اخترعت البلديات حلولاً مؤقتة عبر مضاعفة القيمة التأجيرية، إلّا أنّها لم تجدِ نفعاً، في حين لحظت موازنة 2024 رسوماً وضرائب أعلى تصل قيمتها إلى 20 ضعف المبلغ السابق، إلاّ أنّ هذه الموازنة قد يُطعن بها أمام المجلس الدستوري".

وعدم قدرة البلديات على القيام بمهامها يفتح الباب أمام ملفّ ماليّة البلديات، الذي يعاني مشكلة في بنيته، يتابع معلوف، ويجب إدخال بعض التعديلات إليه. وعملنا مع DRI على اقتراح قانونين، الأوّل يتعلّق بالرسوم والعائدات البلدية، (إيجاد موارد أخرى توفّر عائدات للبلديات كالعقارات والمشاريع الاستثمارية) والثاني يتعلق بإجراءات تحصيل الرسوم والعائدات البلدية، (تعديل طريقة التكليف واحتساب الآلية وحصرها بالأمور المجدية التي توفّر عائدات مالية، وربطها بوزارة المال) ويعمل القانونان على ضمان الاستدامة المالية للبلديات واتحاداتها في الأزمات، ويوفّران أساساً متيناً لزيادة إيرادات البلديات وتحسين إجراءات الإدارة المالية فيها".

وإلى الشقّ المالي، يأتي الشقّ الإداري في البلديات الذي يحتاج أيضاً إلى بعض التعديلات والإصلاحات بحسب معلوف، "إذ تعاني البلديات هزال إدارتها، والمشكلة تكمن في طريقة تكوينها بدءاً من الانتخابات وصولاً إلى المحاسبة وتكوين الجهاز البشري والسلطات التنفيذية والتقريرية داخل البلدية. فالجهاز البشري يعاني الكثير من المشاكل، لأنّ موظّف البلدية لا يخضع لتدريب كاف، وراتبه لا يساعده على تأمين حياة كريمة، وهو محروم من راتب تقاعدي. كما أنّ البلديات الصغيرة غير قادرة على توظيف كادر بشري كاف لضعف ماليتها. وأمام هذا الواقع أعددنا بالتعاون مع جمعية "نحن" مشروع قانون حول اللامركزية الإدارية، يتناول تعديلات على قانون البلديات، تشمل طريقة انتخاب المجالس البلدية وتكوينها وتقسيمها الجغرافي وفق أسس تستند إلى مقومات جغرافية. ويلحظ القانون طريقة صرف الأموال والمساءلة الشعبية عبر إشراك الناس وليس المقيّدين على اللوائح فحسب، بل القاطنين في المنطقة أيضاً، فهؤلاء يتعرّضون إلى ازدواجية غير منصفة، فالساكن غير المقيّد يحاسب على الضرائب بشكل صارم أكثر من المقيد لأنّه ناخب ويعطي أصواتاً إذ إنّ رئيس البلدية يركّز على الناخبين لتجديد البيعة".

ختاماً، يبقى واقع البلديات في لبنان مأزوماً، لا خلاص له ولو بعد إجراء انتخابات، فمن أجل استقامة الوضع البلدي، تحتاج القوانين إلى إصلاحات جذرية، بعضها إداري بنيوي، والآخر مالي. وحتّى تأتي ساعة الإصلاح سيدفع المواطن ثمن تكاسل سلطته السياسية وفسادها.