شكّل قرار رئيس هيئة الأسواق المالية، حاكم مصرف لبنان بالإنابة د. وسيم منصوري حلّ "هيئة الأسواق" صدمة حقيقية في نهاية العام الماضي. فالعجب لم يكن من إلغاء هيئة ناظمة منوط بها المحافظة على سلامة الادخار الموظّف في الأدوات المالية، إنّما من إلغاء إدارة رسمية منشأة بموجب قانون (161/2011)، لا يجوز حلّها إلّا بقانون يُقرّه ممثّلو الشّعب.

قبل نحو شهرين اتّخذ الحاكم بالإنابة لمصرف لبنان قرارين حملا الرقم 225/ هـ أ / 23 تاريخ 28 – 12 – 2023، و1/ هـ أ / 2024 تاريخ 10 – 1 – 2014. وقد نصّا على التوقّف الإداري المؤقّت لهيئة الأسواق المالية. الأمر الذي دفع بعضو مجلس إدارة الهيئة وليد القادري، والأمينة العامّة نادين عبد النور، والموظفين: ريتا حوراني، وتاتيانا تابت، ورومي الحلو، ورولا واكد، وفيكتوريا المعلم، ونادين صوما، وغريس بولس، وعماد منصور، إلى التقدم عبر وكيلهم القانوني المحامي د. باسكال فؤاد ضاهر بدعوى أمام مجلس الشورى، يطلبون بموجبها وقف تنفيذ القرارين المذكورين وإبطالهما. وبالفعل أصدر الشورى قراراً إعدادياً في 22 شباط الحالي نصّ على التالي:

وقف تنفيذ القرارين المطعون فيهما.

تكليف الجهة المستدعى بوجهها، في سياق جوابها على أساس المراجعة، إبراز الطلب المرفوع من رئيس هيئة الأسواق المالية إلى مجلس الوزراء، من أجل الموافقة على تأمين التمويل لتغطية موازنة النفقات التشغيلية المرتقبة لهيئة الأسواق المالية، والتي أقرّها مجلس الهيئة والمستندات المرفقة المؤيّدة لهذا الطلب، والإفادة ما إذا كانت قد أنجزت قطع الحساب عن السنة المالية 2023، مع إبراز المستندات المؤيّدة لذلك، وتقديم كلّ ما من شأنه إنارة القضية.

المشكلة التي تواجه هيئة الأسواق المالية ليست مادية فقط، إنّما معنوية أيضاً

مصير الموظفين وكيفية التمويل

فرملة قرار إيقاف هيئة الأسواق المالية عن العمل يطرح سؤالين أساسيين: الأول، عن مصير الموظّفين الذين طلب منهم الحاكم منصوري تقديم استقالاتهم خلال مهلة حدّها الأقصى 10 كانون الثاني من العام الجاري. ويعتبر مستقيلاً حكماً من لم يستقل طواعية أو يطلب الاستيداع. أمّا السؤال الثاني فيتعلّق بكيفية تمويل "هيئة الأسواق". خصوصاً أنّ قرار حلّها يعود بالشقّ الأساسي منه إلى فقدانها مصدر التمويل وعدم كفاية إيراداتها لتغطية مصاريفها، والقيام بدورها.

في المعلومات الخاصة بـ "الصفا نيوز"، يتبيّن أنّ مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية اجتمع في 9 كانون الثاني، أي قبل يوم واحد من انتهاء المهلة المحدّدة لتقديم الاستقالات، واتّخذ قراراً بالإجماع بتمديد مهلة الاستقالة إلى نهاية كانون الثاني. وقبل نهاية الشهر قُدّمت إلى مجلس الإدارة دراسة كافية ووافية عن إمكان تأمين التمويل اللازم لضمان استمرار عملها، فمدّدت المهلة مرّة جديدة إلى نهاية آذار، ولكنها لم تلغَ. وذلك بما يشبه الإصرار على إقفال "هيئة الأسواق" رغم تبيان إمكان تأمين كفايتها من الأموال. عندئذ تقدّم أعضاء من الهيئة بطلب إبطال قرار الإقفال أمام مجلس شورى الدولة. ومع صدور قرار الشورى في 22 شباط لمصلحة استمرار الهيئة في العمل، توقّف الضغط على الموظفين للاستقالة، وأصبح التركيز على الشق الثاني المتعلّق بالتمويل من أجل ضمان حسن استمرار عملها.

في ما يتعلّق بالتمويل فالحلّ موجود. وهو يقوم على عنصرين أساسيين:

الموجودات. وهي الأموال الموجودة في صندوق الهيئة.

الإيرادات المستقبلية المتوقعة. والتي تعتمد بشقّها الأساسي على اشتراكات المؤسسات المالية، والتي تسدّد قبل نهاية آذار المقبل.

وبالفعل عدّل مجلس إدارة الهيئة قيمة الاشتراكات المتوجّبة على المؤسسات المالية مرة جديدة مطلع هذا العام. وقد راعى التعديل أن لا تكون الزيادة في الاشتراكات عقابية (ظالمة) على المؤسسات من جهة، وتضمن من الجهة الثانية استمرار عمل هيئة الاسواق لمدّة عام على أقلّ تقدير. أي إلى حين استحقاق اشتراكات العام التالي. وبذلك تكون الهيئة قد ضمنت توفر الأموال بشكل مستدام. وتعتبر هذه الطريقة التي اعتمدت في التمويل واحدة من عدة طرائق متاحة للهيئة نصّ عليها قانون انشائها (161/2011) وتتضمّن على سبيل الذكر:

موارد "هيئة الأسواق»":

الاشتراكات السنوية المفروضة على الشركات المدرجة وفقاً لما هو محدّد في الأنظمة التطبيقية.

الرسوم والبدلات المفروضة على التراخيص والطلبات وتقديم نشرات الاكتتاب وغيرها من المستندات أو الإجراءات التي ينبغي إنجازها بموجب هذا القانون. وتُحدّد هذه الرسوم والبدلات بموجب النظام المالي للهيئة.

النسبة المخصصة لـ"هيئة الأسواق" من أرباح البورصات، وتحدّد هذه النسبة في النظام المالي للهيئة.

بدل سنوي يحدّد في النظام المالي لـ"هيئة الأسواق" ويستوفى من هيئات الاستثمار الجماعي المدرجة صكوكها وأدواتها المالية في البورصات.

المساعدات والهبات.

السلفات والقروض التي تستحصل عليها "هيئة الأسواق" من أجل تنفيذ موجباتها أو مهامها.

الغرامات النقدية المنصوص عليها في هذا القانون و/أو أنظمته وسائر نصوصه التطبيقية.

وبحسب المعلومات، فإنّ أموال الاشتراكات وحدها بعد التعديل، كفيلة بإحداث كفاية للهيئة المالية من أجل تأمين رواتب كلّ الموظفين بعد تعديلها لمدّة عام، وفتح المجل للتوظيف في وحدة الرقابة. وقد صدر الجدول بالاشتراكات الجديدة قبل نحو 20 يوماً، ومن المتوقّع أن تبدأ المؤسسات المالية تسديد المتوجب عليها بعد اتخاذ القرار باستمرار الهيئة في العمل.

أهمية الهيئة

المشكلة التي تواجه هيئة الأسواق المالية ليست مادية فقط، إنّما معنوية أيضاً. فسلوك من في السلطة يدلّ على جهل بأهمية وجود هيئة ناظمة لا تحمي المستثمرين فحسب، إنّما تشكّل كذلك مصدراً أساسياً للتمويل في ظلّ انهيار القطاع المصرفي. فإصدار الأسهم والسندات بشكل رسمي ومحمي من هيئة ناظمة ورقابية هو المصدر الوحيد لتمويل القطاع الخاص والاقتصاد في الظروف الحالية. من دون وجود هيئة قادرة تتفلّت الاسواق ويتعرّض المستثمرون لما تعرّض له المودعون في القطاع المصرفي. وللدلالة على أهمية وجود الهيئة تكفي الإشارة إلى الإعلام الرقم 71 الذي اتخذه مجلس الإدارة بعد تعيينه في حزيران 2020، والذي قضى بإلزام المؤسسات المالية تسديد عوائد الأسهم والسندات المستثمرة في الخارج بالدولار النقدي، وذلك بعدما كانت جملة من المؤسسات تحاول اقتطاع 25 إلى 30 في المئة من الحقوق أو تسديدها بـ "اللولار" وعبر الشيكات المصرفية.

اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، تبرز أهمية استمرار هيئة الأسواق المالية. فالمواطنون بحاجة إلى توظيف الأموال النقدية التي بين أيديهم في استثمارات تعوّض خسارة النقود لقيمتها مع مرور الوقت، ومؤسسات القطاع الخاص بحاجة إلى التمويل من أجل الاستمرار والتوسّع وخلق فرص العمل. والرابط الوحيد بين الجهتين هو هيئة محترفة قادرة على حماية الاستثمارات والمستثمرين وتطوير الأدوات المالية.