تمخّض جبل الانهيار في الأسبوع السابع من هذا العام، لينجب "فأر" حلول على كلّ المستويات. الوضع الاقتصادي انتقل من مرحلة السقوط الحر إلى ما يشبه العبارة التي توسم بها الشاحنات: "سائرة والرب راعيها". فالغوص في حجم المشاكل النقدية وتعقيداتها، ومحاولة فكّ أحاجي العلاقات المنفعية بين أطراف السلطة، وسبر أغوار التعطيل، ومراقبة الأفيال الكثيرة في غرفة زجاج الوضع الاجتماعي، تقوّض إمكانات الاستمرار في أيّ بلد. فكيف إذا كان البلد عالقاً منذ أربع سنوات في بداية نفق الأزمة الاقتصادية المظلم من دون أيّ بصيص نور في نهايته؟

قبل ساعات من إلغاء جلسة مجلس الوزراء، على وقع التحرّكات المطلبية في الشارع، ظهر يوم أمس، لإقرار خطّة الحكومة للانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف، زاد عدد الوزراء المتبرّئين منها. وزير المهجرين عصام شرف الدين قدّم خطة بديلة من الخطّة الحكومية. ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام أعلن عشية انعقاد الجلسة رفضه خطّة الحكومة. وقدّم إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء اعتراضاً مكتوباً على تضمّنه الخطّة من شطب لأموال المودعين، مقترحاً حلولاً "منصفة"، برأيه، كبديل عن الخطّة الحكومية.

موظّفو المصارف يدخلون على خطّ الازمة

من جهته اعتبر المجلس التنفيذي لاتّحاد نقابات موظّفي المصارف في لبنان أنّ "الحديث عن مشاريع قوانين لإعادة التوازن المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي لن تحقّق المبتغى ما دامت أموال المودعين مجهولة المصير". وثمّن المجلس "قرار مجلس الشورى الذي صدر أخيراً ووضع النقاط على الحروف وأبطل قرار الحكومة بالنّسبة إلى كيفية شطب ديون مصرف لبنان بالعملات الأجنبية". مؤكّدا أنّ "عودة الثقة بالقطاع المصرفي تبقى معدومة ما دامت الحكومة تسعى إلى ردم الفجوة المالية من أموال المودعين. فالدولة هي التي استدانت الأموال على مدار السنوات الماضية من دون حسيب ولا رقيب، وهي اليوم مسؤولة بالدرجة الأولى عن إيجاد خطّة لإعادة هذه الودائع من دون تمييز بين ودائع مؤهلة وغير مؤهلة وبين ودائع أقلّ أو أكثر من مئة ألف دولار ".

الدولة مضربة

في الأثناء، دخل إضراب موظّفي ثماني وزارات وإدارات احتجاجاً على عدم تصحيح الرواتب، يومه الثالث، مهدّداً بشلّ الحركة الاقتصادية وتعريض الأمن الغذائي للمواطنين للاهتزاز. فـ "توقّف العمل كلّياً في وزارتي الزراعة والاقتصاد، وتعطّلت المصادقة على الفحوص وبيانات الاستيراد والتصدير. وعلقت عشرات الحاويات المحمّلة بالسلع الزراعية المستوردة والمصدّرة على المرافئ والمعابر الحدودية"، بحسب رئيس نقابة مستوردي ومصدّري الخضر والفاكهة في لبنان نعيم خليل. "وهو الأمر الذي سيؤدّي إلى تكبّد المزارعين خسائر فادحة، خصوصاً أنّ السلع الزراعية سريعة العطب، وقد تتعرّض للتلف الجزئي أو الكلّي في الحاويات، قبل الوصول إلى وجهتها النهائية. كما يؤثّر من جهة ثانية في الأمن الغذائي وتوفر السلع في الأسواق. ولا سيما أنّ البلد في مرحلة استيراد البطاطا وغيرها من الأصناف. وفقدانها من الأسواق سيؤدّي إلى ارتفاع ثمنها وتحميل المواطنين المزيد من التكلفة التي هم في غنى عنها".

بدورها، حذّرت نقابة مستوردي المواد الغذائية من مغبّة التعطيل على مستوى الوزارات، معتبرة في بيان أنّ "ما يزيد من تداعيات هذا الأمر هو حدوثه قبل شهر رمضان المبارك، إذ هناك كمّيات كبيرة من المواد الغذائية المستوردة، والتي تصل تباعاً لإمداد الأسواق بها"، محذّرة من أن توقّف عملية إخراجها من المرافئ سيؤدّي حتماً إلى حصول نقص حاد في البضائع في الأسواق، فضلاً عن التأثير المباشر في إمدادات شهر رمضان".

كما لفتت نقابة اتحاد القصّابين ومستوردي المواشي إلى أنّ "هناك بواخر للمواشي الحية بأعداد إضافية قبل شهر رمضان المبارك، تصل تباعاً إلى مرفأ بيروت، ستكون غير قادرة على التفريغ لأنّها تحتاج إلى موافقة مندوب وزارة الزراعة على المرفأ"، في المقابل سيعجز المستوردون عن إدخال العلف إلى البواخر، لأنّها تحتاج أيضاً إلى موافقة وزارة الزراعة، مما سيؤدّي حتماً إلى نفوق عدد كبير من المواشي الحية. وبالتالي، إلى حدوث أضرار على كلّ المستويات".

البطالة تصل إلى نحو 30 في المئة

في غمرة هذه التحديات، أعلنت منظمة العمل الدولية في تقرير "التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية - اتجاهات 2024" أنّ نسبة البطالة في لبنان ارتفعت من 11.4 في المئة قبل الانهيار إلى 29.6 في المئة. وتبلغ نسبة البطالة في أوساط الشباب حوالى 50 في المئة. في المقابل، ارتفعت معدّلات العمالة غير المصرّح عنها من 54.9 في المئة عام 2019 إلى 62.4 عام 2022.

رفع الحدّ الأدنى للأجور

على صعيد الأجور في القطاع الخاص، توصّلت وزارة العمل إلى اتفاق مبدئي مع الهيئات الاقتصادية على رفع الحد الأدنى للأجور من 9 إلى 15 مليون ليرة. على أن يرافق ذلك خفض الضمان سقف المؤسسات الخاضعة للتفتيش إلى هذا الرقم، بدلاً من 20 مليون ليرة. وجاء هذا الاتفاق بحسب مصادر لجنة المؤشر "على هامش استضافة المجلس الاقتصادي والاجتماعي وزير العمل مصطفى بيرم، بحضور ممثلي العمال وأرباب العمل، قبل نحو أسبوع. وذلك على الرّغم من أنّ الأجواء قبل الحرب كانت تدور حول رفع الرواتب إلى 22 مليوناً، ورفع منحة التعليم من 3 إلى 10 ملايين. إلاّ أنّه جرى فرملة كلّ المساعي مع تراجع النشاط في القطاع الخاص بنسبة 70 في المئة، منذ 7 تشرين الأول 2024". وبحسب المصادر، فإنّ "انفتاح الهيئات الاقتصادية على هذه الزيادة الرسمية المحدودة جداً، يُقابل بإصرار الاتحاد العمالي العام على رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى ما لا يقلّ عن 45 مليون ليرة. خصوصاً في ظلّ الارتفاع الحاصل في الأسعار، والذي يبدو أن لا شيء قادراً على لجمه. إذ ارتفع التضخّم بنسبة 3 في المئة على مستوى شهري منذ بداية هذا العام وسجّلت المواد الغذائية ارتفاعاً راوح بين 10 و15 في المئة بسبب الأحداث العالمية.

كلّ الحلول مؤجّلة إلى أمد غير منظور. فالدولة لا تستطيع رغم جبايتها آلاف مليارات الليرات من الرسوم والضرائب شهرياً، الإنفاق خوفاً من التضخّم. وحدّها الأقصى المسموح به من مصرف لبنان لا يتجاوز 6000 مليار ليرة، لا يكاد يكفي لتسديد الرواتب. وفي ما يتعلّق بتحمّل كلفة الخسائر، وإن كانت تقع على عاتق الدولة أم المصارف، فهي أشبه ما تكون بقصّة "ابريق الزيت" إذ لا تنفكّ تكرّر نفسها دون ملل منذ أربع سنوات من غير أن تصل إلى خاتمة منطقية.