تتزاحم التطوّرات على خطّ "الضمان الاجتماعي"، والهدف تعويض النّقص الهائل بالتعويضات. فالمؤسسة الضامنة هذه، التي تعتبر الأكبر على الصعيد الوطني، نالها من الانهيار الحصّة الكبرى. أموالها موظّفة بالليرة في شهادات الإيداع المصرفية. وقسم كبير من الشركات لا يوفّر طريقة للتهرب من تسديد مستحقّاته، ويقدّم تصاريح وهمية عن رواتب موظّفيه. في حين"يعمّي" القسم الآخر أُجراءه، ويبقيهم "مكتومي الضمان" هرباً من دفع الاشتراكات والتعويضات.

بعيداً عن المشاكل الإدارية والسياسية التي تعصف بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، على غرار بقية المؤسسات العامّة، فإنّ التحدّي الراهن يتمثّل برفع قيمة التعويضات على مختلف أنواعها. فالتعويضات الاستشفائية ظلّت حتّى الأمس القريب، زهيدة، لا تغطّي أكثر من 15 إلى 20 في المئة من الكلفة الحقيقية، ولا سيما العمليات المحتاجة إلى مستلزمات طبية. والأمر نفسه ينسحب على تغطية الفواتير الدوائية. وكارثة الكوارث تقع في صندوق تعويضات نهاية الخدمة حيث فقدت التعويضات 85 في المئة من قيمتها، على الرّغم من احتسابها على أساس الحدّ الأدنى للأجور المحدّد بتسعة ملايين ليرة.

مذكّرات إدارية

بعد إسقاط الموازنة البند الرقم 93، الذي نصّ على رفع تعويضات نهاية الخدمة من الضمان عشرة أضعاف، أصدر "الضمان" أخيراً مجموعة من المذكّرات الإداريةبهدف إعادة القليل من الاعتبار إلى التقديمات، أهمها:

- التوصّل مع المصارف إلى اتفاق يقضي بتسديد التعويض دفعة واحدة بدلاً من تقسيطه على دفعات.

- إحالة المؤسسات التي تتقدم بتصاريح أجور أو تصاريح استخدام أو ترك، تتضمن أجوراً أقل من 20 مليون ليرة إلى التفتيش. إذ إنّ غالبية المؤسّسات تصرّح على أساس الحدّ الأدنى للأجور. فيتسبّب ذلك بخسارة كبيرة في إيرادات الصندوق المالية، وتالياً يحدّ من قدرته على تأمين التقديمات الصحيّة والاجتماعية اللازمة. مع العلم أنّ الظروف المعيشيّة والواقع المالي والاقتصادي في البلاد يحتّمان على أصحاب العمل تخصيص رواتب للعمّال لديهم تفوق الحدّ الأدنى الرسمي للأجور والمحدّد بتسعة ملايين ليرة.

- تحديد سعر صرف الدولار الأميركي الذي على أساسه تحتسب اشتراكات المضمونين الذين يتقاضون أجورهم بشكل كلّي أو جزئي بعملة أجنبية بحسب السعر الرسمي الأعلى المعتمد من قبل مصرف لبنان. وهو حالياً 89,500 ليرة اعتباراً من الأول من الشهر الجاري.

رفع التغطية الدوائية

هذا على المستوى الإداري، أمّا على المستوى الدوائي، فقد استطاع الضمان تحقيق نقلة كمّية ونوعية في تغطية الأدوية المزمنة التي تحتمّ على المرضى تناولها بشكل دائم ومن دون انقطاع. وهي عادة مرتفعة الثمن. وستشمل التغطية 660 دواء، بنسبة 75 في المئة من مساهمة الضمان بالسعر الذي تضعه وزارة الصحة. أي أنّ التغطية سترتفع إلى 60 في المئة من السعر الحقيقي. وللمثال، فإنّ تغطية دواء مزمن ثمنه مليون ليرة ستصبح 600 ألف ليرة، تمثّل 75 في المئة من أصل التغطية المحددة بـ 80 في المئة من كلفة الأدوية. "وسيكون لهذا الإجراء انعكاس مهمّ جداً على المرضى الذين وصلوا إلى مرحلة أحجموا فيها عن تقديم الأدوية للضمان بسبب تدنّي التعويضات وعدم تجاوزها 10 إلى 15 في المئة من السعر الحقيقي للدواء"، يقول المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي. "ويجري العمل على دراسات لاستكمال رفع التغطية بالنسبة لبقية الأدوية."

… والاستشفائية أيضا ً

النقطة الثانية والمهمّة تحقّقت على صعيد الاستشفاء، إذ عاد الضمان إلى محاسبة المستشفيات على أساس الكلفة المقطوعة التي كانت تعتمدها وزارة الصحة قبل الأزمة مضروبةً بـ 20 ضعفاً، تكفي لتغطية 50 في المئة من العمل الاستشفائي. "وعلى الرّغم من أنّ الكلفة المقطوعة يجب ضربها بـ 40 ضعفاً لتخفيف الفاتورة إلى الحدّ الأدنى بالنسبة للمرضى، فإنّ ما تحقّق يحمي المرضى ويخفّف عنهم الفاتورة بشكل كبير في الوقت الراهن"، برأي كركي. فالعملية الجراحية التي تكلّف مثلاً مليوني ليرة، سيدفع الضمان مليوناً، والمريض مليوناً. ويمنع على المستشفى تقاضي أكثر من نصف قيمة الفاتورة من المريض. وستشمل هذه التغطية "بحسب كركي أكثر من 3200 عمل جراحي، تمثل 60 في المئة من الأعمال الاستشفائية. وتبقى المشكلة بـ 40 في المئة من الأعمال الاستشفائية التي تتطلب استعمال المستلزمات الطبية prótese، التي يتحمّل كلفتها إلى اليوم المضمون بسبب ارتفاع أسعارها وعدم قدرة الضمان على تغطيتها".

هذا ورفع الضمان تغطية علاج غسيل الكلى في المستشفيات إلى 100 في المئة. كما رفع تعرفة أمصال علاج غسيل الكلى عن طريق "البريتوان" في المنازل، وتحديد تعرفة العلاج الشعاعي للأمراض السرطانية "RADIOTHERAPY بمبلغ مقطوع قدره 90 مليون ليرة. الأمر الذي يحمي مئات المرضى من دفع أية فروقات مالية ناتجة من هذه الأعمال ولم يعد باستطاعتهم تحمّل أعبائها.

مصادر التمويل

رفع قيمة التقديمات الطبية والدوائية والاستشفائية لم يكن ليتحقّق لولا عمل الضمان على زيادة مداخيله من خلال الاشتراكات، وملاحقة المؤسسات التي لا تصرح بشكل دقيق عن الأجور التي تدفعها إلى موظفيها. وستحال كلّ مؤسسة تصرح عن رواتب تقلّ من 20 مليون ليرة إلى التفتيش. "من دون أن يعني ذلك تعيين الضمان حدّاً أدنى جديداً للأجور"، يشدّد كركي، "أو إلزام المؤسسات التصريح بأكثر مما تعطيه وعرقلة عملها. أو أن تصرّح فعلاً بالقيمة الحقيقة للرواتب التي تدفعها، ولا تنقّصها عند التصريح للضمان". وقد تبيّن أنّ 98 في المئة من المؤسسات تتهرّب من التفتيش، وهي تعمد إلى التصريح عن الحدّ الأدنى للأجور الذي تدفعه، أي 900 ألف ليرة، وتعطي مبالغ بالدولار من خارج الراتب المصرح عنه. وهو ما يحرم الضمان من الموارد المالية لرفع تقديماته التي يسعى إلى رفعها إلى ما كانت عليه قبل الانهيار. ومن شأن هذا الاجراء "رفد الضمان بأكثر من 1200 مليار ليرة"، يقول كركي. وإذا ما ضيف هذا المبلغ إلى عائدات مرسوم رفع سقف الاشتراك الخاضع للمرض والأمومة (مدرج على جدول اعمال مجلس الوزراء) من 18 مليون ليرة إلى 45 مليوناً، وبقيمة 6000 مليار ليرة. وإلى احتساب الرواتب التي تدفع بالدولار على أساس السعر المحدد من مصرف لبنان وليس سعر الصرف الرسمي بقيمة تقدر بـ 2000 مليار ليرة، فإنّ عائدات الضمان يجب أن تصل إلى 9000 مليار ليرة في نهاية العام. الأمر الذي يمكّنه من مضاعفة تقديماته وعودة الامور الى ما كانت عليه سابقاً.

محاولات الضمان إصلاح التعريفات ما زالت تصطدم بخشية المؤسسات من التصريح عن المبالغ الحقيقية التي تدفعها لموظفيها وأجرائها. ومصدر الخشية يتعلّق بتعويضات نهاية الخدمة. إذ ستتحمّل تسوية الفرق الناتج من ضرب آخر راتب بعدد السنوات، وتدفع مبالغ كبيرة قد تؤدّي إلى افلاس الكثير منها. خصوصاً في ظلّ الظروف الصعبة التي يمرّ البلد وتراجع الأعمال.