أصبحنا نعيش في عصر التفاهة في زمن شيوع اللامبالاة والاستخفاف بالعقل وتسطيح الأفكار وخواء المعنى. لم يخطئ المفكّر الكندي آلان دونو حين قال في كتابه "نظام التفاهة" إنّ التفاهة قد بسطت سلطانها على جميع أرجاء العالم. فالتافهون أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل في كلّ ما يتعلّق بالخاص والعام. 

أين يكمن الخلل؟ هل مواقع التواصل الاجتماعي "جنّنتنا" فعلاً أم كشفت تفاهتنا وفضحت حقيقتنا؟ 

عدم وجود أهداف والكثير من وقت الفراغ 

للغوص أكثر في البعد النفسي لما يحصل، اليوم، على وسائل التواصل الاجتماعي، تواصل "الصفا نيوز" مع المتخصصة في علم النفس، الدكتورة لانا قصقص، التي لفتت إلى أنّ "معظم صنّاع المحتوى أو النّاشطين على وسائل التواصل الاجتماعي هم من المراهقات والمراهقين، الذين ليس لديهم أهداف واضحة في حياتهم. وهنالك أيضاً راشدون يميلون إلى تعبئة وقت الفراغ بمتابعة محتوى هابط على وسائل التواصل الاجتماعي". 

واعتبرت قصقص أنّنا نعيش في عصر السذاجة والسخافة، "إذ أصبح معظم المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي هابطاً ولا يحمل أيّة رسالة، ولا يصلح لأن يشاهده لا الصغير ولا الكبير. فكلّ ما نشاهده هو عبارة عن خلافات وإشكالات ومصطلحات متدنية، وأناس يبدون آراءهم في كلّ ما يحصل دون أن يُطلب منهم ذلك، أو أشخاص يتحدثون في مواضيع غير مؤهّلين للتكلّم عنها، وليسوا أصحاب اختصاص، وللأسف ينقصنا وعي مجتمعي "لفتلرة" المحتويات، واختيار ما يجب أن نشاهده من عدمه". 

وعن تأثير هذا النوع من المحتوى في الصحّة النفسية للأطفال، أجابت قصقص: "الأطفال يتعرّضون لمحتوى رديء يجب أن لا يشاهدوه، أو يسمعوه، لأنه يؤثّر سلباً في سلوكياتهم. أمّا الكبار فبدل أن يتابعوا مواضيع قد تساعدهم على تطوير حياتهم، يغطسون بدوّامة من التفاهات ومحتوى غير لائق، فيبعدهم عن أهدافهم، ويجعل منهم أشخاصاً غير منتجين، يضيّعون وقتهم على محتوى غير مفيد سيؤثّر سلباً على مستقبلهم". 

أنواع المحتوى 

يقول صانع المحتوى باتريك داوود لـ "الصفا نيوز": "اليوم، بإمكان أيّ شخص أن يكون صانع محتوى، إلاّ أنّ نوع المحتوى يختلف بين شخص وآخر بحسب الأفكار التي تُصنع وطريقة عرضها. هذه المهنة هي مهنة حرّة، تتمّ ممارستها عبر عدسة كاميرا توثّق المحتوى الذي يرغب الشخص في تقديمه، لإبراز أمر ما في مجال معيّن قد يكون فنّياً، أو رياضياً، أو فكاهياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً... وأنواع المحتوى يصعب حصرها، إلاّ أنّ أشهر الخانات التي يمكن تصنيف المحتويات ضمنها، هي المحتوى الفكاهي والسياحي أو التاريخي، والطبخ أو تجربة الطعام، والموضة والتصميم والميك أب الذي يدخل في عالم الجمال، كما هنالك محتوى عائلي. هذه هي أكثر المحتويات رواجاً على مواقع التواصل الاجتماعي". 




رواج المحتوى الهابط 

وعن سبب رواج المحتوى الهابط، اعتبر داوود أنّ غالبية الناس تستهزئ بهؤلاء فتنشر محتواهم للضحك والسخرية فيشتهرون بهذه الطريقة. إلّا أنّ هذا النوع من المحتوى لا يدوم، لأنّ الشخص الذي يبني محتواه على التفاهة لا يستمرّ. وهو سيصل إلى مرحلة ستتوقّف الناس عن نشر محتواه، إذ ليس هذا ما يرغب فيه الجمهور. الناس يحبون الثرثرة ونقل الأخبار وانتقاد بعضهم بعضاً. لذلك يجدون في هذا المحتوى مادة دسمة للتسلية. إلّا أنّ صنّاع المحتوى الهابط لن تطير لهم شهرة من مادة بلا قيمة، ولن يكّرموا من قبل الدول، ولن يؤثروا بطريقة جيدة على المجتمعات، إنما على العكس تماماً". 

صعوبات صناعة المحتوى 

ولم ينفِ باتريك داوود وجود صعوبات تواجه عمله، لإيصال محتواه إلى الجمهور، إذْ "مع كلّ فيديو جديد تحدّ جديد ومغامرة يجبرانني على انتاج الجديد والمبتكر للوصول إلى قلوب الناس وإضحاكهم عبر أفكار معينة وليس عبر تفاهات"، مشدّداً على "الفرق بين الكوميديا والسخرية أو التنمّر والسخافة، وهنا يأتي التحدّي خصوصاً بمجتمعاتنا العربية حيث لا يزال هناك الكثير من الخطوط الحمر التي علينا التنبّه لها، والسعي إلى إيصال رسالتنا أسلوب راق ومضحك في الوقت نفسه". 

وعن مصدر إلهامه، قال "تأتيني الأفكار فجأة. إلّا أنّ الصعوبة تكمن في طريقة تنفيذها وتصويرها ومنتجتها، وهذا يستغرق أحياناً يومين من العمل أو أكثر لإنتاج محتوى يليق بالمتابعين وبالصورة التي أرغب في رسمها". 

ولم ينكر وجود فرص في عالم صناعة المحتوى وحظوظ، لافتاً إلى "أهمّية العلاقات العامّة التي يبنيها صانع المحتوى في مسيرته لمساعدته على تطوير عمله"، معتبراً أنّ "كميّة الإعلانات ليست كافية لمعرفة مدى قوة المحتوى، فقد يكون أجر صاحبه متدنّياً جداً مقابل أجر صنّاع محتوى يعملون بكدّ على فيديوهاتهم". 

أسلوب الشحادة 

ويشير داوود إلى أنّه "لا يدخل في مسألة "لايفات التيك توك" والتحديات، بل بين وقت وآخر أفتح لايف للتشاور مع جمهوري والإجابة عن أسئلتهم وتعليمهم كيفية صناعة المحتوى، أو لمشاركتهم تفاصيل من حياتي اليومية تقرّبني منه، وتؤكّد له أنّني مثلي مثلهم. والمحتوى الذي أقدمه يكلّفني مصاريف بدل استئجار فريق للتصوير والمونتاج والتمثيل، والناس يدعمونني في البث المباشر لأتمكّن من الاستمرار في صناعة هذا المحتوى. الناس يدعمون صانع المحتوى من محبّتهم له، ولإعجابهم بمحتواه، ورغبتهم في أن يستمر. ولكن للأسف أخذ البث المباشر في دولنا العربية منحى سلبياً، إذ بات الناس يذلون أنفسهم للحصول على المال والدعم، في حين أن كلّ ما هو مطلوب من هؤلاء تقديم محتوى راق يشجع الناس على دعمه. وما يُنتج اليوم من محتوى هابط على تيك توك هو أمر سيئ جداً ويفسد صورة صنّاع المحتوى ويجعلهم يبدون كأنهم متسوّلون". 

صناع المحتوى سلطة رابعة؟ 

يرى داوود أنّ "صناعة المحتوى أصبحت مهنة حقيقية، وضرورية، بعدما انتقلت الإعلانات من الصحف، إلى الراديو، فالتلفاز، واليوم إلى وسائل التواصل الاجتماعي وصنّاع المحتوى والمؤثّرين الذين جعلوا شركات الإعلانات تلجأ إليهم، بسبب قوّة منابرهم، وقدرتهم على صناعة أفكار إعلانية ذكية. لا بل أصبح صنّاع المحتوى سلطة رابعة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو ما أثبتته الأحداث في غزّة، حيث تمكّن صنّاع المحتوى من تغيير الرأي العام وكشف الحقائق في ما يتعلّق بفلسطين بعدما كانت مظلومة من قبل الرأي العام الدولي ووسائل الاعلام الغربية. أمّا اليوم فقلب صناع المحتوى الرأي العام في جميع دول العالم، وهذا ما نتجت منه موجات احتجاجات ومطالب متضامنة مع الشعب الفلسطيني، وأظهروا أنّهم أقوى من جميع وسائل الاعلام لكون أفكارهم تنتشر بسرعة وتسل إلى جمهور  واسع جداً عبر وسيلة تحملها الناس يومياً معهم عبر هواتفهم". 

وعن المهارات التي تتطلّبها صناعة المحتوى، قال "يجب على الشخص أن يجيد الكتابة أولاً، وأن ينشر فيديوهات بشكل مستمر، فضلاً عن وجوب تمتعه بمهارات تتصل بالتصوير والتفكير والتنفيذ، وخلق أفكار جديدة، بالإضافة إلى متابعة أداء الفيديو بعد نشره وتقييم نسب المشاهدة والتفاعل والتعلّم من الأخطاء لعدم تكرارها. بكلّ بساطة إنّها وظيفة تتطلب 24 ساعة عمل على مدار سبعة أيام". 

لا شكّ في أنّ صناعة المحتوى حقّقت نقلة نوعية في عالم الوظائف والإعلانات حتّى في الصحافة، وأصبحت ذات تأثير حقيقي على مستقبل الأجيال وتطوير المجتمعات، والفكر البشري.  ومن هنا تبرز أهمية إنتاج محتوى لائق يرتقي بالمجتمعات ويسعى إلى تطويرها بدلاً من أخذها إلى مستقبل مجهول تسيطر عليه التفاهة.