يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تزال ماضيةً إلى التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، حيث وجّهت ضربة ثانية إلى اليمن ركّزت على قصف مطار صنعاء الدولي، بعدما كانت أبرقت إلى إيران بأنّها لا تريد تصعيد المواجهة، وذلك بعد يوم على قصفها للحديدة.

والجدير ذكره أنّ الحسابات العقلانية للمراقبين تفيد بأنّه ليس من مصلحة إدارة جو بايدن التصعيد في المنطقة لعدة أسباب، أوّلها أنّها قد دخلت مرحلة الحملة الانتخابية الرئاسية التي تجرى في الخريف المقبل من أجل الفوز بولاية رئاسية ثانية. ولهذا السبب فإنّ أيّ تصعيد في منطقة الشرق الأوسط قد يؤثّر على أسعار النفط العالمية، التي قد يؤدّي ارتفاعها إلى زيادة التضخّم في الولايات المتحدة، مما يؤثّر سلباً على الطبقة الوسطى التي يعتمد عليها الديمقراطيون بالدرجة الأولى، علماً أنّ بايدن كان قد أصدر، فور فوزه بالرئاسة الأميركية في العام 2020، سلسلة قرارات من شأنها تدعيم أوضاع هذه الطبقة.

كذلك فإنّ بايدن، على الرّغم من صهيونيته المعلنة، فإنّه يعتمد، كما الحزب الديمقراطي، على أصوات الجالية العربية المسلمة في الولايات المتحدة، علماً أنّ من بين أعضاء الكونغرس الديمقراطيين سيدتين عربيتين هما رشيدة طليب وألحان عمر. وبنتيجة اندلاع عملية طوفان الأقصى والدعم اللا محدود لإسرائيل من قبل بايدن، فإنّ معظم قادة الجاليات العربية المسلمة قرروا سحب تأييدهم لبايدن، مما سيؤثّر على النتائج في ولايات متأرجحة وحاسمة في الولايات المتحدة في الانتخابات المقبلة.

من هنا، فإنّ المراقبين أجمعوا على أنّ بايدن كان يريد لإسرائيل أن تحقّق انتصارا وتقضي على المقاومة في غزّة. لكنهم يرون أنّ بايدن كان يريد احتواء النزاع ومنعه من التوسّع إلى لبنان، أو التحوّل إلى صراع مفتوح في المنطقة. وقد بدا ذلك جليّاً من حركة الموفد الأميركي إلى لبنان عاموس هوكشتاين ووزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن إلى إسرائيل وعدد من دول المنطقة. ويرى مراقبون أنّ بايدن بحاجة إلى وقف الحرب على غزّة للتركيز على ترميم علاقاته بالجاليات العربية المسلمة بغية تحسين وضعه الانتخابي الذي سجّل تراجعاً كبيراً في استطلاعات الرأي لمصلحة منافسه المحتمل الرئيس السابق دونالد ترامب. كذلك توقّع مراقبون أن يندفع بايدن إلى وقف النزاع في غزّة، حتّى يستطيع احتواء حركة الاحتجاج داخل حزبه الديمقراطي بعدما تجلّى تمرّداً في وزارة الخارجية نتيجة الدعم اللامحدود لإسرائيل، كما تجلّى تمرّداً في الكونغرس بين الأعضاء الديمقراطيين للحزب واستقالة عدد كبير من الموظفين الديمقراطيين في الإدارات الأميركية.

بايدن كان يريد احتواء النزاع ومنعه من التوسّع إلى لبنان، أو التحوّل إلى صراع مفتوح في المنطقة

لكنّ المفاجأة كانت في توجيه الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات عسكرية إلى اليمن، مما يزيد من احتمالات التصعيد في المنطقة ويؤثّر على الاقتصاد العالمي، خصوصاً أنّ ثلث التجارة الدولية، ومن ضمنها شحنات نفط تمر عبر باب المندب. وقد أعلن مسؤولون في قطاع الشحن لوسائل إعلام أمريكية أن أسعار شحن الحاويات شهدت قفزة هذا الأسبوع عقب الضربات الجوية الأميركية والبريطانية على اليمن.

وأسفرت هجمات "أنصار الله" على السفن الإسرائيلية المتّجهة إلى إسرائيل عن تجنّب أغلب سفن الحاويات المرور عبر البحر الأحمر وقناة السويس، علماً أنّ هذا الطريق وسيلة مختصرة من آسيا إلى أوروبا، تمرّ عبرها ثلث شحنات الحاويات الدولية.

هذا ما أدّى إلى ارتفاع مؤشّر شنغهاي القياسي للشحن بالحاويات أكثر من 16% على أساس أسبوعي اليوم إلى 2206 نقاط. وارتفع مؤشّر الأسعار الفورية للشحن بالحاويات من موانئ الصين 114% منذ منتصف كانون الأول.

ونقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن شركة كلاركسونز الرائدة في وساطة السفن أنّ أسعار الشحن في المسار من شنغهاي إلى أوروبا ارتفعت بنسبة 8.1% إلى 3103 دولارات لكلّ حاوية 20 قدماً.

وقفز سعر شحن الحاويات إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة بنسبة 43.2 % إلى 3974 دولاراً لكلّ حاوية 40 قدماً.

في السياق نفسه، ارتفعت أسعار النفط بنسبة 1%، يوم الجمعة الماضي، مع تزايد أعداد ناقلات النفط التي حوّلت مسارها بعيداً عن البحر الأحمر، فيما ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 88 سنتاً، أي ما يعادل 1.1% إلى 78.29 دولار للبرميل عند التسوية.

وسجّل برميل النفط أكثر من 80 دولاراً، وهو أعلى مستوى هذا العام، كما ارتفع خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي 66 سنتا أو 0.9% إلى 72.68 دولار.

ومن شأن هذا أن يفرض ضغوطاً أكثر على الاقتصاد الأميركي الذي تراجع أداؤه خلال الأشهر الأخيرة. فوفقاً للبيانات الاقتصادية تراجعت نسب النمو أخيراً إلى 2.1 في المئة مقارنةً بـ5.8 في المئة في العام 2021.

ولجأ مجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) والمصارف المركزية الأخرى في أنحاء العالم إلى سياسات رفع الفائدة، في محاولة لكبح جماح التضخّم، الذي وصل إلى أعلى مستوى. كذلك ارتفع العجز في الميزان التجاري بنسبة 2.6% على أساس شهري إلى 91.2 مليار دولار. ولا تزال الولايات المتحدة تسجّل عجزاً تجارياً مرتفعاً بسبب التداعيات الاقتصادية المستمرّة للحرب في أوكرانيا، إلى جانب ارتفاع مستويات التضخم.

هذا التصعيد في البحر الأحمر ومواصلة قصف الولايات المتحدة وبريطانيا لليمن، لن يؤدّيا إلى ارتفاع أسعار النفط والسلع فحسب، مما يعني ارتفاع نسب التضخم في الولايات المتحدة والغرب ويؤثّر سلباً على الطبقة الوسطى، بل هو يزيد من الشرخ مع العالم العربي الإسلامي ويؤثّر سلباً على فرص ترميم بايدن لعلاقاته مع الجاليات العربية المسلمة، في الوقت الذي يشهد فيه اليمين الأميركي المستند الى المجتمعات البيضاء البروتستانتية المحافظة تصاعداً في شعبيته على نحو يعزّز من فرص دونالد ترامب على حساب جو بايدن.

فهل اختار بايدن وحزبه الديمقراطي الانتحار السياسي؟