الإسرائيلي لم يتمكّن بعد أكثر من 30 يوماً على "الطوفان" من تحقيق أيّ "انتصار"...

واضح من خلال التركيز الأميركي على إعلان "هدنة إنسانية" في غزّة لإدخال المساعدات الإغاثية إليها وإخراج أميركيين ومن جنسيات أجنبية أخرى منها، أنّ الادارة في واشنطن ما تزال لا تؤيّد إعلان وقف لإطلاق النّار حتّى الآن، لاعتقادها أنّ هذا الأمر من شأنه أن يمكّن حركة "حماس" من الاستعداد لهجمات أخرى، على حدّ قول مسؤولين في البيت الأبيض. كذلك يستبطن هذا الموقف الأميركي إعطاء إسرائيل مزيداً من الوقت حتّى تحقّق "انتصاراً" معيّناً على "حماس" بما يعيد لها ما فقدت من هيبة، ومن قوّة ردع بعد عملية "طوفان الاقصى" في غلاف غزّة.

وواضح أنّ الإسرائيلي لم يتمكّن بعد أكثر من 30 يوماً على "الطوفان" من تحقيق أيّ "انتصار"، إذ يبدو أنّ اجتياحه البرّي لغزّة يعود عليه بالخسائر ولم يمكنه بعد من إحكام السيطرة على المناطق التي وصلت إليه آلياته، ولذلك يحاول من خلال القصف الجوي التدميري وما يخلّفه من مجازر يسقط فيها الآلاف من النساء والأطفال والعجّز أن يدفع "حماس" إلى التّراجع أو "الاستسلام"، ولكنّ هذا الأمر لم يحقّق له مبتغاه حتّى الآن، ولذلك لوّح بقصف غزة بقنبلة نووية على لسان وزير التراث الإسرائيلي الذي لم ينطق من هوى، وإنّما عن مناخ يسود دائرة القرار العسكري في حكومة الحرب الإسرائيلية التي يبدو أنّها فقدت السّبل حتّى الآن للوصول إلى "الانتصار" الذي ترمي إليه، علماً أنّ آلة الحرب الإسرائيلية قصفت غزّة حتّى الآن بنحو 30 ألف طنّ من المتفجّرات أي ما يوازي أكثر من نصف حجم القنبلة النووية التي ألقاها الأميركيون على مدينة هيروشيما اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية على أثر الضربة التي منيت بها على يد "الكاميكاز" اليابانيين في موقعة "بيرل هاربور".

وواضح أيضاً وأيضاً أنّ المواقف التي أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير الذي انتظره الجميع طويلاً لم تطمئن لا الإسرائيليين ولا الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الحليفة لها، لأنّه أبقى كلّ الاحتمالات مفتوحة، بين بقاء الوضع العسكري على حاله على الجهة الجنوبية اللبنانية من هجمات متبادلة محكومة بقواعد الاشتباك المعمول بها بموجب القرار الدولي 1701، وبين الذهاب إلى مواجهة شاملة تُفتح فيها كلّ الجبهات (والتي فتحت نصف فتحة) على إسرائيل في حال شعر "محور المقاومة" أنّ الاجتياح الإسرائيلي لغزّة يستهدف تدميرها واقتلاع ما تبقّى من أهلها منها، في إطار مشروع يُجهِز على القضية الفلسطينية برمّتها من غزة إلى الضفة الغربية.

ولذلك، وبناءً على كلّ هذه المعطيات، فإنّ الوضع في جنوب لبنان وغزّة كان ولا يزال مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، لأنّ إسرائيل وداعميها ماضون في حربهم على جبهتي غزة والجنوب اللبناني، فمشروعهم هو تسديد ضربة كبرى من شأنها تقويض "محور المقاومة" بدءاً بضرب حركتي "حماس" و "الجهاد الاسلامي" وبقية الفصائل الفلسطينية المقاومة وانتهاء بحزب الله، الذي تدلّ التصريحات الإسرائيلية إلى أنّ تل أبيب تُبطِن نيّة فعلية في هذا الاتجاه، بدليل أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت اقترح الهجوم على "الحزب" في الأيّام الأولى للحرب، ولكن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو رفض ذلك، على حدّ ما نشر في إعلام إسرائيل يومذاك.

ويلاحظ المتابعون لتطوّرات الحرب وما يرافقها من حراك ديبلوماسي في مختلف الاتجاهات، أنّ الولايات المتّحدة الأميركية مع حلفائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، يناورون ويتبادلون الأدوار، في إطار عملية تهدف إلى إعطاء إسرائيل مزيداً من الوقت لتحقيق أهدافها من الهجوم على غزّة، لأنّ مهلة الشهر التي أعطيت لها إثر "طوفان الاقصى" انقضت ولم تنجح في ذلك، ولذا عندما تطرح واشنطن مع حلفائها هدنة إنسانية تبادر إسرائيل فوراً إلى رفضها والعكس صحيح، كلّ ذلك بهدف تأخير أيّ اتّفاق على وقف النار إلى حين تمكّن تل ابيب، إذا تمكّنت، من تحقيق أهداف عسكرية بإلحاق هزيمة بحركة "حماس" واستعادة الأسرى بما يشعرها بأنّها استعادت الهيبة التي فقدتها، وكأنّ آلاف القتلى من الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين لم تشف غليلها بعد.

ولذلك، يقول هؤلاء المتابعون، أن لا وقف لإطلاق نار متوقّعاً أعلانه قريباً في غزة كما في جنوب لبنان، وعلى هذا الأساس هناك سيناريوهات كثيرة متداولة حول مستقبل هذه الحرب، التي يمكن أن تتدحرج إلى حرب شاملة في أيّ وقت، كما لمّح السيد نصرالله وآخرون في "محور المقاومة" أو على مستوى المحور الآخر، ولكن على فداحة الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بالغزاويين، فإنّ "محور المقاومة" يعتبر نفسه المنتصر حتّى الآن، ويرى أن عملية "طوفان الاقصى" وما تلاها وضع اسرائيل على سكّة الانهيار الذي سيتعاظم في اليوم التالي لأيّ اتفاق على وقف النار. لأنّ تل ابيب التي أعلنت الحرب على أنّها "حرب وجود" تعيش فعلاً أزمة وجود سواء على مستوى قيادتها (نتنياهو مع حلفائه) أو على مستوى الكيان برمّته، والذي يرى كثير من الباحثين في علم التاريخ اليهودي أنّ "لعنة الثمانين" قد حلّت به. فإسرائيل التي انهزمت في حرب تموز 2006 في مواجهة حزب الله وفقدت كثيراً من قوّة الردع التي كانت تملكها وجدت ضالتها لاحقاً في "اتفاقيات ابراهام" التطبيعية مع بعض الأنظمة العربية، وعندما شعرت بهشاشة هذه الاتفاقات رمت لها الولايات المتّحدة مع حلفائها "طوق نجاة" اسمه "الخطّ الهندي" الذي يجعلها "رأس جسر" لهذا الخطّ، بحيث تربطه بأوروبا عبر "قناة بن غوريون" المقرّر حفرها من خليج إيلات إلى البحر المتوسّط مروراً بشمال قطاع غزّة الذي تدور فيه اليوم أشرس المعارك وتدكّه الآلة الحربية الإسرائيلية لتسويته بالأرض، لأن هذه القناة ستمرّ به والتي سيستغرق إنجازها 3 سنوات لتكون موازية لقناة السويس، بل على حسابها. وفي هذا السياق يمكن القول أنّ الحرب الإسرائيلية على غزّة هي ذات طابع جيوسياسي واقتصادي على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته حتّى ولو قضي على مئات الألوف منهم في غزة. ذلك أنّ هذا الخط الهندي الذي يعيد "الاعتبار" لإسرائيل كدولة وكيان، يراد منه مواجهة خطّ "الحزام والفريق" أو "طريق الحرير" الجديد الذي تعمل عليه الصّين منذ سنين طويلة واقترب من الاكتمال.

مثلما إسرائيل تطمح إلى أن تكون رأس جسر "الخط الهندي" إلى أوروبا فإنّ لبنان يطمح إلى أن يكون رأس جسر "الحزام والطريق"

ويرى المتابعون اياهم، إنّ مصير "الخط الهندي" يتوقّف على من سيفوز في الحرب، سواء في غزة أو في الجنوب اللبناني، فمثلما سيستميت محور المقاومة لإلحاق الهزيمة بإسرائيل وحلفائها، فإنّ هذه الاخيرة ستستميت لإلحاق الهزيمة بهذا المحور إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ويظهر من خلال كلّ هذه المعطيات أنّ الحرب طويلة، والإسرائيليون يقولون ذلك قبل غيرهم، وربّما تتسع رقعتها وتتعدّد جبهاتها التي انضمّت إليها "المقاومة العراقية" وحركة "أنصارالله" في اليمن. العراقيون يقصفون القواعد الأميركية في العراق وسوريا، واليمنيون يقصفون إيلات وتلّ أبيب وربما أهداف أميركية في البحر الأحمر إذا تسنّى لهم ذلك، وأمّا الأساطيل الأميركية والغربية المنتشرة في شرق البحر المتوسط تحت عنوان "حماية اسرائيل" وقصف حزب الله وحلفائه إذا تدخّلوا في الحرب متخطّين جبهة الجنوب اللبناني إلى العمق الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فهي الأخرى ستكون هدفاً لـ"محور المقاومة" على حدّ ما قال السيد نصرالله صراحة في خطابه الأخير.

وفي الواقع، يقول المتابعون، أنّ نصرالله راعى في خطابه الوضع الداخلي اللبناني وإمكانات تحمّل هذا الوضع في حال الدخول في حرب شاملة، فهو لا يريد لهذه الحرب أن تنشب، ولكنّه لا يمكن أن يقف مكتوفاً وهو يدرك قبل الآخرين أنّه في حال قُضيَ على "حماس" في غزة فسيأتي الدور على "الحزب" وحلفائه في اليوم التالي، ولذلك سيبقي الحزب على إشغاله إسرائيل على الجبهة الشمالية بغية استنزافها ومنعها من سحق "حماس" في غزّة من جهة، وإفقادها القدرة والمبادرة إلى شنّ حرب ضدّه لاحقاً، وهو يعرف أنّه في حال هزيمة المقاومة في لبنان فإنّ مشروع إلحاقه، أي لبنان، باتفاقات التطبيع جاهزة، إذ إنّ الإسرائيليين يعتقدون أنّهم إذا تمكّنوا من إلحاق هزيمة بـ"الحزب"، فإنّها ستكون هزيمة للمحور الذي ينتمي إليه، علماً أنّه مثلما إسرائيل تطمح إلى أن تكون رأس جسر "الخط الهندي" إلى أوروبا فإنّ لبنان يطمح إلى أن يكون رأس جسر "الحزام والطريق" إلى القارة الأوروبية أيضاً.