لطالما شكل نقص الموارد بالتزامن مع ارتفاع الحاجات سبباً للخلافات والمشاكل. الفقر الذي يُطبِق على اقتصاد الأسر ويؤدي إلى تفككها، هو نفسه الذي ينسحب على الدول ويدفع إلى تمزقها. وبغض النظر عن أسباب أبغض الظواهر، الذي "لو كان رجلاً لقتلته"، كما قال الإمام علي، فإن الأمم اتفقت بعد الحرب العالمية الثانية على مكافحته، من ضمن جهودها لنشر السلام والأمن الدوليين. وقد خصصت الأمم المتحدة عشرات الوكالات والهيئات والبرامج والصناديق لدعم الدول المحتاجة، وحفظ كرامة مواطنيها. إلا أن هذا الدعم أخذ يتقلص، عن قصد أو نتيجة الضغوط التي يتعرض لها الممولون، تدريجياً، حتى وصل آنياً إلى مستويات تنذر بعواقب وخيمة.

على مشارف كل عام جديد، تُطلق الأمم المتحدة نداءها الإنساني (Humanitarian Appeal). ويمثل هذا "النداء" طلباً رسمياً يحدد الاحتياجات الإنسانية العالمية للسنة المقبلة، ويضع خطط الاستجابة، ويقدّر التمويل المطلوب لمساعدة السكان المتضررين من النزاعات والكوارث. هذا العام تراجع التمويل المطلوب بنسبة 50% عما كان عليه في السنوات الماضية، ليس نتيجة لتراجع الحاجات، بل بسبب إحجام الممولين عن الدعم. فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت أكبر الممولين في العام 2023، بنسبة تصل إلى 40% وبقيمة 22 مليار دولار، خفضت نسبة تمويلها للعام المقبل إلى نحو 16 في المئة، ومثلها فعل العديد من الدول الأوروبية نتيجة ازدياد الضغوط عليها وارتفاع عجز موازناتها.

سيارة إطفاء من دون ماء

من أصل طموح بجمع مبلغ يفوق الـ 50 مليار دولار للعام القادم، أطلقت الأمم المتحدة نداء المساعدات بمبلغ 23 مليار دولار. ومع هذا، من المستبعد الحصول على المبلغ كاملاً، بناء على تجربة العام الحالي، إذ لم يصل إلى المنظمات الدولية لغاية اليوم سوى 12 مليار دولار من أصل نداء بقيمة 47 مليار دولار.

تراجع التمويل سيترك عشرات الملايين من المحتاجين حول العالم خارج نطاق الدعم. وقد شبّه كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، توم فليتشر الوضع خلال العام القادم، بقيادة سيارة إطفاء مباشرةً نحو النار بخزان مياه فارغ. فالمبلغ المرصود لا يكفي إلا لنحو 87 مليون شخص مصنفين بأنهم الأكثر أولوية، فيما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وجود 250 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات عاجلة. ومن الممكن الوصول في أحسن الأحوال إلى 135 مليون شخص في حال توفّر تمويلٍ بقيمة 33 مليار دولار.

تمويل لبنان يتراجع ايضاً

هذا على المستوى العالمي، أما محلياً فإن الوضع ليس أفضل حالاً. فعلى الرغم من عدم تصنيف لبنان من ضمن أول ثلاث جهات بحاجة إلى المساعدات، وهي: غزة والسودان وسوريا، فإن الوضع الداخلي لا يقل فداحة. فنسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان تتجاوز 70 % بحسب تصنيف البنك الدولي، فيما يتجاوز عدد الذين يعانون من الفقر المدقع، أي الذين يعيشون على أقل من 2.15 دولار يوميا 30%. ويعتمد لبنان بشكل متزايد على المساعدات التي تقدمها المؤسسات الدولية، سواء كانت برامج الأمم المتحدة، مثل برنامج الغذاء العالمي والفاو، واليونسيف، أو منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلها من الجهات الدولية.

المفارقة، أن "التمويل الذي سيتلقاه لبنان في العام المقبل سيأتي أدنى من مستويات التمويل المتدنّية أساساً منذ عام 2023"، تقول الخبيرة الاقتصادية في المجال الزراعي، والمستشارة في مجال المنح والأبحاث في جمعية "رواد الأعمال في الأرياف"، سهاد أبو زكي. وسيترك هذا التراجع تداعيات حتمية على القطاعات الحيوية التي كانت تستفيد منه، وفي مقدمتها دعم المداخيل نقدياً، وتثبيت الاستقرار الإجتماعي عبر برنامج أمان، والأمن الغذائي، والمياه، والتعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية. ومن البديهي بحسب أو زكي أن "يحد تراجع التمويل من قدرة الكثير من العائلات، المنهكة أصلاً، على تأمين حاجاتها الأساسية. وسينعكس تالياً على المزارعين المحليين والمنتجين القرويين، الذين يعتمدون بشكل أو بآخر على برامج التمويل لتسويق بضائعهم. وبالتالي، فإن تراجع التمويل سيكون له تداعيات سلبية على الأسعار والمداخيل والإستهلاك.

خطورة التداعيات

هذا من ناحية الأمن الغذائي، أما اجتماعياً فسيؤدي تخفيض التمويل إلى تراجع قدرة جمعيات المجتمع المدني على متابعة ودعم برامج الحماية الاجتماعية، ولاسيما على صعيد الحد من التمييز الجندري، والعنف القائم على الجنس. ومن المهم برأي أبو زكي "معرفة القطاعات التي ستطالها التخفيضات التمويلية، ومقدار هذا التخفيض ليبنى على الشيء مقتضاه". فتخفيض الإنفاق على التعليم، مثلاً، لن يؤثر فقط على ارتياد الأطفال المدارس، إنما على الصحتين النفسية والجسدية للأطفال، وارتفاع نسب عمالة الأطفال ، والأمن الاجتماعي لهم، وعلى قدرة المجتمع مستقبلاً على بناء الكفاءات والحد من البطالة. والأمر نفسه ينسحب على تمويل القطاعات المرتبطة بالمياه، والصحة وغيرها من القطاعات الأساسية.

تنفيذ الإصلاحات ينقذ

من أصل أكثر من ثلاثة مليارات دولار طلبها المجتمع الدولي لمساعدة لبنان على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لم يُقَرّ سوى نحو 1.086 مليار دولار، صُرف منها حتى الآن حوالى 851 مليون دولار، فيما لا يزال نحو 235 مليون دولار معلّقاً. ويأتي هذا التراجع في ظل انعدام قدرة الدولة على الإنفاق الاجتماعي. فـ"الدولة تفتقر إلى مصادر التمويل"، من وجهة نظر أبو زكي، و"البدائل بفرض المزيد من الضرائب ستحمل تداعيات أخطر على الأمنين الاقتصادي والاجتماعي". أما التمويل الخارجي الوازن للبنان فهو "ليس مرتبطا بميزانية الأمم المتحدة فحسب"، تضيف أبو زكي، "إنما بربط المجتمع الدولي التمويل بالإصلاحات الداخلية العصية عن الإقرار والتنفيذ".

تراجع التمويل سيؤدي بحسب فليتشر إلى اتساع رقعة الجوع، وتفشي الأمراض، وتصاعد مستويات العنف في العالم بشكل غير مسبوق. وتتفق مختلف الآراء على ضرورة عودة الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة عن قرارها بتخفيض المساعدات أو حتى حجبها كليا كما حصل مثلا مع برنامج المساعدات الأميركية usaid. فوكالات الأمم المتحدة الإنسانية تعتمد على تبرعات طوعية تأتي في معظمها من الدول الغربية، وتُعد الولايات المتحدة أكبر مانح بفارق واسع تاريخياً. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أنها ستظل في الصدارة بحلول عام 2025 رغم التخفيضات الكبيرة في مساعداتها، لكن حصتها تراجعت من أكثر من ثلث التمويل الإجمالي إلى 15.6 في المئة هذا العام.