بالأمس تقاسم المشهد حدثان، خطاب عن غزة من لبنان، وأخبار غزة من الميدان...  

كانوا جميعاً ينتظرونه، على اختلاف مشاربهم ومشاريعهم. كلّ منهم يرصد ما سيقوله ليبني عليه ما سيكون وما يجب ألّا يحصل. لم يخرج عليهم بمفاجآت على شاكلة "أنظروا إليها تحترق". وإن قال للأميركيين "أساطيلكم لا تخيفنا وأعددنا لها عدّتها". لم يعلن الحرب على الرغم من إشارته إلى المواجهات المستمرّة عند الحدود الجنوبية، محذّراً في الوقت عينه من "أنّ كلّ الاحتمالات مفتوحة ومطروحة ويمكن اللجوء إليها في أيّ وقت من الأوقات". أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله حدّد بالأمس مساراً للمرحلة المقبلة، ما بين العمل على وقفٍ لإطلاق النار أو الاستعداد لحرب إقليمية.

جاء كلام نصرالله بالأمس ليقطع الطريق على محاولات إلهاء العالم عن حجم ما يجري من مجازر ترتكبها بإسرائيل بتصوير أنّ الحرب هي مع حماس وحزب الله. بدا جليّاً أنّ التركيز يجب أن يبقى على ما ترتكبه إسرائيل بحقّ المدنيين العزل، لأنّ فتح جبهة الجنوب أكثر سيعطي للحرب معنى المواجهة. وما يحصل في غزة يجب ألّا تحجبه أيّ معارك جانبية. جنون آلة الحرب الإسرائيلية تقتل المدنيين على جبهة وتقتل أي تعاطف مع الجيش الإسرائيلي على جبهة أخرى، ويزداد هذا النّهج مع كلّ جريمة ومع كل مجزرة ومع صورة كلّ ضحية قتلتها إسرائيل.

حين انتصر حزب الله في حرب تموز على الجيش الإسرائيلي، كثرٌ قالوا كيف يكون انتصار مع كلّ هذا الدمار وكلّ تلك الضحايا. ولكن بمقياس تحقيق الأهداف خرج الحزب منتصراً وها هو اليوم أقوى مما كان بعشرات المرّات. يؤمن حزب الله بانتصار الدم على السيف، وها هي الضحية في غزة تنتصر على القاتل. هذه كانت رسالة نصرالله بالأمس لغزّة وحماس، بل لفلسطين كلّ فلسطين. إنّه وقت غزّة، الحرب على غزّة، ازدواجية المعايير الغربية، انفضاح صورة مدّعي الإنسانية وحاملي لواء الحرّيّات. أكّد نصرالله إنّها لحظة غزة ويجب ألّا يسرقها أحد من أصحاب الحقّ فيها.

يقال أنّ كلمة نصرالله لم ترضِ أحداً. فمن كان يريدها حرباً مفتوحة لم يجد فيها مراده، ومن كان يريد منها أن تطمئنه إلى حدود الجبهة وسقفها، خرج بعد سماعها أكثر قلقاً ممّا كان. على الرغم من سقفها العالي فإنّ العمليات التي شنّتها المقاومة الإسلامية التابعة لحزب الله عند الحدود الجنوبية ليلة أمس الأوّل كان صداها أقوى. من كانوا ينتظرون مادّة حربية يمكن لهم توظيفها في حملاتهم ضد الحزب لم يفلحوا. كما من كانوا يريدون أن يخرجوا على جماهيرهم ليقولوا أنّ نصرالله لم يقم بأكثر من الكلام والتهديد والوعيد، وجدوا أنفسهم أمام معادلة تَزين الفعل وردّ الفعل وتقول بأنّ المخرج من كلّ هذا وقف لإطلاق النار وإلّا... وهنا بيت القصيد.

أراد نصرالله وبمجرّد انتهائه من كلمته تسليط الضوء على أصل القضية، "فلسطين"، تلك القضية التي ظنّ كثيرون أنها أصبحت من الماضي، عادت مجدّدا وبقوّة لتقلق راحة من سوقوا لخريطة طريق لا تظهر فيها حدودها ولا أسماء مدنها. من عملوا جاهدين لطمس معالم فلسطين وروّجوا للتطبيع مع الاحتلال تلقّوا صفعة لم تكن بالحسبان. كثر راهنوا على مشاريع ما بعد تصفية القضية فإذا بشعوبهم ترفع لواء فلسطين وكأنّها لم تهملها يوماً. إنّها غزّة مجدّداً. في غزة هناك تاريخ جديد يُكتب ومستقبل تُعاد صياغته وفق مشيئة أصحاب الحقّ.

من لم ير صورة الأطفال الضحايا وأطرافهم الصغيرة وأشلاءهم المتناثرة عليه أن يراها، عليه أن يمعن النظر فيها.

من غزة عادت صور الدمار والدماء لتجرف كلّ السواتر التي ظنّوا أنّها ستحجب ما يحصل. إنها صورة ذاك الجنين ابن الثمانية أشهر الذي قتلته آلة الحرب الإسرائيلية وأمّه ولا أدري إن كان والده قد سبقهما او انه يعاني من جراحه او قد يكون معتقلاً أو مفقوداً أو حتى مفجوعاً بعائلته. تلك الصورة حفرت عميقاً في روحي.

من لم ير صورة الأطفال الضحايا وأطرافهم الصغيرة وأشلاءهم المتناثرة عليه أن يراها، عليه أن يمعن النظر فيها. إن كان مجرّد النظر إلى هذه الصور معاناة فكيف الذين حلّت بهم تلك الكارثة المسمّاة إسرائيل؟ من لم يسمع بكاء الأطفال ألماً من جراح أصابت أغصانهم الطريّة وتركت علاماتها على وجوههم تذكّرهم بجبن وجوه القتلة ومن خلفهم، عليه أن يسمع.

لا تعلم إسرائيل أنّها حين قتلتهم، زرعتهم في أرضهم أكثر. نجحت في قتلهم لكنّها لن تنجح في انتزاعهم من ترابهم. ظنّت أنّها بقتلهم تمحو أثرهم، فاتها أنّهم والأرض واحد، هم من ترابها وإلى ترابها يعودون.