على غرار "دول الطوق" الثلاثة، مصر الأردن وسوريا، تأثْر لبنان بقوّة بالحرب الدائرة في فلسطين المحتلّة

دخل الاقتصاد اللبناني مرحلة الشلل شبه الكامل، مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أسبوعها الثالث. مختلف المؤشّرات الاقتصادية عادت لـ "تقف" على الضوء الأحمر، بعدما "أحرقت" سرعة التطوّرات الدّاخلية والخارجية الضوء "الأصفر" التنبيهي، وأعدمت "ضخامتها" الأمل بإمكانية إطلاق الضوء الأخضر عما قريب.

الوضع الاقتصادي المنتظر عند تقاطع المصالح السياسية الداخلية مع تبدّلات الإقليم، سبق أن شوهد، déjà vu، مراراً من القطاع الخاص اللبناني. إلّا أنّ هذا لا يعني من وجهة نظر المستثمرين في لبنان سهولة "الاعتياد عليه". إنّما العكس. فهو "يضيف نقطة على كوب صبرهم الطافح منذ العام 2005 بالاغتيالات، والحروب، والتفجيرات، والفراغ، والانهيار، وقطع العلاقات مع دول الجوار، وانفجار المرفأ، وكورونا... المترافقين، دائماً وأبداً، مع الفساد، ولامبالاة السياسيين، وإمعانهم في تحقيق مصالحهم الخاصة على حساب مصلحة الوطن.

لبنان يسجّل تراجعاً في مختلف المؤشّرات

على غرار "دول الطوق" الثلاثة، مصر الأردن وسوريا، تأثْر لبنان بقوّة بالحرب الدائرة في فلسطين المحتلّة، وما يرافقها من تصعيد عسكري على الحدود الجنوبية. فـ "الوضع الاقتصادي يتدهور بشكل دراماتيكي، من سيّء إلى أسوأ"، يقول رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير في بيان، محذّراً من أنّ القطاع الخاص الذي صمد لأربع سنوات في وجه الازمة، سُيقضى عليه كلياً. وقد استند شقير على مجموعة من الأرقام والمؤشرات، ومن أبرزها:

- ارتفاع الطلب على السّلع الغذائية بسبب التخزين، وانخفاضه على بقية السلع، باستثناء المحروقات، بنسبة تراوحت بين 50 و70 في المئة.

- تراجع العمل بالمطاعم بنسبة وصلت إلى 90 في المئة.

- تراجع الإشغال الفندقي إلى ما بين 5 و10 في المئة.

- تراجع قطاع تأجير السيارات والمؤتمرات والسهر بنسبة 90 في المئة.

- تأثّر القطاع الصناعي بنسبة تراوحت بين 30 و35 في المئة.

- انخفاض حجوزات بضائع الاستيراد الجديدة غير النفطية من فئة السلع غير الأساسية بحراً، وتعليق بعض عقود التصدير بفعل قلق المستوردين.

- انكماش قطاع التأمين لا سيما بالنسبة لبوالص التأمين على البضائع (استيراد وتصدير). بالإضافة إلى التوقّف عن تسديد الزبائن الأقساط للشركات نتيجة توجّه الناس نحو الحفاظ على السيولة.

- انخفاض حركة الوصول في الأيام العشرة الاخيرة إلى لبنان عبر مطار رفيق الحريري الدولي بنسبة 33 في المئة، أمّا حركة المغادرة فارتفعت بنسبة 28 في المئة.

- انخفاض الطلب على "الكماليات".

هذا الواقع المترافق مع منع سفارات الدول الأجنبية مواطنيها من القدوم، إطلاقاً، إلى لبنان، كحال المملكة المتحدة، ومطالبتهم بالمغادرة، مع إمكانية وقف الرحلات التجارية، انعكس خللاً في الحياة الاقتصادية. إذ شبّه توفيق طحّان، وهو صاحب واحد من أكبر متاجر بيع الألكترونيات بالتجزئة في لبنان، وضع القطاع وكأنّه "ديجونتور وأطفأته". فهذا القطاع أصيب بشكل عام بجمود كبير منذ بدء العدوان على غزة. ولو أنّ حركة المبيع تراجعت في مناطق الجنوب والقريبة منها أكثر من بقية المناطق، فإنّ نسبة التّراجع تراوحت بين 50 و90 في المئة. ويعتبر طحان الذي عايشت مؤسسته ظروفاً قاسية في الداخل، إنّ "المرحلة التي يمرّ بها لبنان اليوم هي الأخطر، نظراً لانعدام الطبقة الوسطى الأقدر على الصّرف والإنفاق". فمع انحدار موظّفي القطاع العام وأساتذة المدارس والجامعات وموظفي المصارف... وغيرها العديد من القطاعات الذين يشكّلون أكثر من ثلثي الطّلب من الطبقة الوسطى إلى الفقيرة، أصبحت كلّ القطاعات التي لا تبيع مواد غذائية مهدّدة بانكماش الطلب. "إذ لطالما كان اعتمادنا على هذه الفئات من الموظّفين"، يضيف طحان. وقد انحصرت الطبقات اليوم بين أغنياء يتسوقون من الخارج ويطلبون افخر السلع، وفقراء يعجزون عن استبدال أبسط التجهيزات التي تتعطّل.

الطلب على المواد الغذائية أكثر من عادٍ بقليل

في الوقت الذي يعتبر فيه تراجع الطلب على الألكترونيات مؤشّراً واضحاً وصريحاً على الانخفاض الكبير في الطلب على كلّ ما يُنظر إليه على أنّه من الكماليات. يخفّف رئيس واحدة من أكبر سلاسل "الهايبر ماركت" في لبنان حسان عز الدين من إشاعة التهافت على المواد الغذائية، كما حصل في فترات الإغلاق أثناء جائحة كورونا. ويقول "سجّلنا منذ السابع من تشرين الأول الحالي زيادة بالمبيعات ما بين 5 و10 في المئة. وتركّز الطلب على أصناف محددة كالحبوب والمعلّبات وبعض أنواع السّلع". إلّا أنّ زين الدين يستدرك إنّ "الطلب لن يبقى عقلانياً في حال تطوّرت الأمور إلى حرب وسنشهد موجة من التهافت الفعلي على شراء المواد الغذائية"، وهنا يخلق الهلع مشكلة غير موجودة. فمخزون المتاجر يكفي لمدّة ثلاثة أشهر على أقلّ تعديل في حالات الطّلب العادي. كما أنّ المستوردين لديهم مخزون يكفي عادة لأكثر من شهر. وعليه فإن استمرار الطّلب بشكل طبيعي يكفي البلد لما بين 4 و5 أشهر، في حال لم يعمد المستهلكون إلى التخزين. هذا عدا عن أنّه من غير المسموح برأي عز الدين وضع قيود على استيراد المواد الغذائية، خصوصاً أنّه منذ حرب تموز 2006 تتمّ مراقبة الشّحنات التي تدخل. كما أنّ حالة لبنان الجغرافية والسياسية لا تشبه ما يتعرّض له قطاع غزة المحاصر".

الفرق بين الحرب المحتملة راهناً وتلك التي شنّتها إسرائيل في العام 2006 يتمثّل أولاً بوجود ما بين 2 إلى 2.5 مليون نازح سوري إلى عدد السكان، وبعدم قدرة لبنان على الاستيراد عبر سوريا فيما لو وقع حصار بحري بسبب خضوع الأخيرة لعقوبات. الأمر الذي سيعيق وصول المشتقّات النفطية وقطع الغيار والصيانة للشركات التكنولوجية والكهرباء. الأمر سيزيد من المعاناة ويفاقم الأزمات داخلياً.

ما يجري في لبنان طبيعي بالنّظر إلى ضخامة الحدث في المنطقة، إنّما ما هو غير طبيعي هو كمّ التخويف من انقطاع البضائع والسلع. فمن حيث يدري البعض أو لا يدري يساهم بتعزيز ما يعرف بعلم النفس السلوكي بـ self-fulfilling prophecy "النبوءة ذاتية التحقّق". بمعنى أنّ التنبّوء بنفاد السلع يؤدي إلى انقطاعها. ومع الأسف فإنّ عدوى الهلع تنتقل بشكل كبير بين الذين يتعرّضون لوسائل الإعلام، وما تبثّه منصّات التواصل الاجتماعي، بغضّ النظر إن كان المحتوى حقيقياً أو مبالغ به.