في الطريق لقتل آلاف الأبرياء، تمرُّ الغارات الإسرائيلية عمداً على القطاعات الإنتاجية في غزة. فتُمطر المصانع والمحترفات الزراعية والمؤسسات التجارية بوابل الصواريخ والقذائف، لتدمّرها، بعدما أنهكتها بالحصار والحروب المتكرّرة سابقاً، وشلّتها حاضراً بقطع الكهرباء والماء والإمدادات الأولية. الغاية من العدوان لا تقتصر على الاقتصاص من البشر، إنّما تهديم الحجر، وإعدام فرص القطاع للنهوض بنفسه، وتأمين الحدّ الأدنى من الاستقلال الاقتصادي لتحقيق الرفاه المنشود.

تشير الإحصاءات الواردة من فلسطين المحتلّة إلى تكثيف الجيش الإسرائيلي قصفه للقطاع الصناعي والمنشآت، وتدمير ما تبقّى من البنى التحتية، التي شهدت منذ العام 2005 ثلاثة اعتداءات كبيرة. "وقد أضحت نحو 50 ألف منشأة صناعية وتجارية، هدفاً، إلى جانب البشر والشجر"، يقول وزير الاقتصاد في الحكومة الفلسطينية خالد عسيلي. ومن إجمالي عدد المنشآت الاقتصادية في غزة، كان هناك قرابة 3000 مصنعاً، منها نحو ألفي مصنع كانت تعمل حتّى عشيّة بدء العدوان والبقية متوقّفة منذ سنوات. وحتّى المصانع التي كانت تعمل، فإنّ قدرتها الإنتاجية لا تتجاوز 30 في المئة من كامل طاقتها، لعدم توافر المواد الخام، والطاقة الكهربائية وقيود التصدير. وكانت هذه المصانع بحسب بيانات "جمعية رجال الأعمال الفلسطينيين في غزة"، توفّر نحو 25 ألف وظيفة مباشرة، ونحو 35 ألف وظيفة غير مباشرة". إلّا أنّها توقّفت كلّياً أو جزئياً بعد السابع من تشرين الأول.

الاقتصاد الهشّ

لا تملك السلطة الفلسطينية عامّة، وقطاع غزّة خاصّة، بنية اقتصادية متينة ومستقلّة بالمعنى الحرفي للكلمة. فالاقتصاد الفلسطيني ملحق بالإسرائيلي، يتعامل بـ "الشيكل"، ويملك مغلفاً جمركياً واحداً، ويستورد حوالي 55 في المئة من حاجاته من إسرائيل، ويصدّر لها أكثر من 80 في المئة من مجمل انتاجه المحدود. ورغم الهوامش الضيّقة هذه، تتعمّد إسرائيل إضعاف الاقتصاد الفلسطيني، للإطاحة بفرصة تحقيق الاستقلال المالي والنقدي، وضمان استمرار توافد العمالة الرخيصة إلى منشآتها. فحوالي 210 الاف عامل فلسطيني يعملون داخل الكيان الإسرائيلي، يؤمّنون مدخولا يقدّر بنحو 400 مليون دولار شهرياً إلى الضفّة الغربية"، يقول المحلّل الاقتصادي نصر عبد الكريم. وتذهب بعض الأرقام للإشارة إلى أنّ نصف اليد العاملة في الضفّة الغربية تعمل في إسرائيل بشكل شرعي أو غير شرعي. كما أنّ الآلاف من قطاع غزة يعملون داخل كيان الاحتلال ويؤمّنون مدخولا عالياً، نظرا للفرق الكبير في الأجور. ففي حين يبلغ الحدّ الأدنى للدخل اليومي في غزة 61 شيكل، يصل في إسرائيل إلى 280 شيكل. وعليه من المحتّم "إصابة الاقتصاد الفلسطيني بشظايا مباشرة من تدهور الاقتصاد الإسرائيلي"، بحسب عبد الكريم. وأيّ ارتفاع بأسعار السّلع الرئيسية نتيجة تراجع قيمة الشيكل إلى حدود 4 شيكلات مقابل الدولار، تزيد من معاناة الفلسطيني في الضفة والقطاع. هذا عدا عن تأثّر التجارة ومالية السلطة التي تجبى ضرائبها من قبل إسرائيل.

تدمير القطاع الانتاجي

الخناق الاقتصادي غير المباشر على فلسطين غير كاف بالنّسبة لآلة الحرب الإسرائيلية المدمّرة، حيث "يتمّ استهداف المنشآت الاقتصادية، التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الحياة الإنسانية في غزة بشكل مباشر، لإعدام دورة الاقتصاد، بعد محاولة القضاء على دورة الحياة"، برأي الخبير الاقتصادي زياد نصار الدين. "كما أنّ الاستهداف هو جزء من ردّ العدو الانتقامي على تعطّل كافّة مرافقه الاقتصادية، وتوقّف مصانعه بنسبة تتراوح بين 70 و75 في المئة بمختلف مواقعها على أراضي فلسطين المحتلّة. إذ تبيّن الأرقام أنّ التوقّف عن العمل أصاب 80 في المئة من معامل الألبسة في الكيان، و51 من مصانع الأدوات الكهربائية والالكترونية، و68 من مصانع الألعاب، و65 من المصانع التي تؤمّن المواد الأوّلية للمطاعم".

القطاع الزراعي لم يسلم

الأمور لا تقف عند حدود تهديم المصانع والمتاجر. فالقطاع محروم من إمكانية تطوير قطاعه الزراعي بشقّيه البرّي والبحري لثلاثة أسباب رئيسية:

- تآكل المصنّف الأراضي بفعل التمدّد العمراني، حيث أنّ القطاع الذي ينتشر على مساحة 365 متراً مربعاً يضمّ نحو 2.4 مليون نسمة، وهو يعدّ الأعلى كثافة سكانية في العالم أجمع، بمعدل 6000 نسمة بالكيلومتر المربع الواحد.

- اقتطاع جزء كبير من الأراضي الزراعية للقطاع بعد "فك الارتباط الأحادي الإسرائيلي مع القطاع" في العام 2005، وانشاء منطقة حدودية شرقية وشمالية يمنع فيها الزراعة.

- تقليص المساحات المسموح الصيد البحري فيها، وتعريض موانئ الصيادين ومراكبهم إلى التدمير بعد كلّ اعتداء على القطاع.

القضاء على البنى التحتية

أمام هذا الواقع ارتفعت نسبة البطالة في غزة لغاية الربع الثاني من العام الحالي إلى "46.4 في المئة بين صفوف القوى العاملة"، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. "ما يعني أنّ هناك 245 ألف فرد عاطل عن العمل في القطاع وحده". ورزح نحو ثلث الغزّاويين تحت خط الفقر. وما يفاقم من المعاناة الآنية وينعكس تعطّلا للاقتصاد بعد انتهاء الحرب هو استهداف البنى التحتية ولاسيّما في مجال الاتصالات. إذ أظهرت الحصيلة الأولية لمجموعة الاتّصالات الفلسطينية، تعطّل 35 في المئة من شبكة الهاتف الثابت والإنترنت المنزلي، ممّا أثّر على أكثر من 50 في المئة من المشتركين. كما تسبّب القصف بتدمير كلّي أو جزئي للأعمدة والكوابل وخطوط الألياف الضوئية التي تربط غزة داخلياً، وخارجياً. ويعد استهداف قطاع الاتصالات، الذي يعتبر أحد أعمدة الصناعة في غزة، عملاً تخريبياً مقصوداً لتقويض الاقتصاد وفصل غزة عن العالم الخارجي.

الضربة القاتلة التي يتلقّاها الاقتصاد في غزّة لا تقتصر على عملية "السيوف الحديدية" المستمرّة، وإن كانت أكبرها على الاطلاق. فقد سبق هذه العملية ثلاثة اعتداءات بين العامين 2008 و2012، وأضخمها في العام 2014، قدّرت كلفتها مجتمعة بحوالي 7 مليارات دولار. وفي كلّ مرة كانت تهدم عشرات آلاف الوحدات السكنية والمستشفيات والمدارس والمراكز الحكومية، ووسائل النقل والمصانع والمتاجر، وتزرع الأراضي والمسطّحات المائية بالقنابل العنقودية. ومع الاعتداء الحالي فإنّ فرصة النهوض بالاقتصاد الغزّاوي تضاءلت بشكل مخيف نظراً لحجم الدمار. حيث لم تعد المساعدات تجدي نفعاً مهما عظمت، والمطلوب وقف العدوان أولاً وفكّ الحصار ثانياً لتنعم غزة ببعض الحياة قبل أن تنعم بقسط من الاستقرار الاقتصادي.