خلافاً لجولات الحروب الماضية، يفتقد مصرف لبنان القدرة على التدخّل بائعاً للدولار لمواجهة موجات الذعر في الأسواق، على غرار ما حصل في حرب تموز 2006...

سؤالان لم يبارحا شفاه اللبنانيين منذ "طوفان الأقصى": هل يدخل لبنان الحرب؟ وما هي التداعيات الاقتصادية؟ القلق "التقليدي" المصاحب لأيّ اهتزاز أمني على الحدود الجنوبية، أضيف عليه خوف مستجدّ على الوضعين النقدي والمالي. فلبنان ليس في حالة انهيار إفلاسيّ فحسب، إنّما "معرّى" من الإمكانيات الاستراتيجية التي تسمح له بالصمود ولو لأيام قليلة. وعلى حدّ قول أحد الخبراء: "شتوة ليومين، بتسكّر البلد". فكيف الحال مع حرب ضروس؟!

من الحسنات القليلة للانهيار، نزعه غشاوة "الليرة بخير" عن عيون الكبار والصغار وخلقه وعي اقتصادي، ظلّ حتى الأمس القريب مفقوداً.

في الشقّ النقدي

خلافاً لجولات الحروب الماضية، يفتقد مصرف لبنان القدرة على التدخّل بائعاً للدولار لمواجهة موجات الذعر في الأسواق، على غرار ما حصل في حرب تموز 2006. حيث قدّر وقتذاك حجم التدخّل بما يقارب المليار دولار. وقد ترافق مع إعلان كلّ من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت عن وضع وديعتين بقيمة مليار دولار و500 مليون دولار على التوالي. ما ساهم في تعزيز احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية، وزيادة قدرته على مواجهة أيّ تطوّر كان من شأنه إضعاف النقّد الوطني. وقد ترافق هذا الواقع مع زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، وارتفاع قيمة التسليفات للقطاع العام بمئات المليارات من الليرات خلال الأشهر التي تبعت حرب تموز. المشكلة اليوم لا تنحصر بعجز المركزي ورفضه التدخّل في سوق القطع لضمان عدم ارتفاع سعر الصرف فقط، إنّما باستحالة قدوم الودائع الأجنبية نتيجة فقدان الثقة. أمّا في حال توسّع الإنفاق بالليرة لتغطية الاحتياجات فسيكون حتماً من خلال مطبعة مصرف لبنان، وليس الجباية نتيجة إقفال مؤسّسات الدولة وتراجع الإيرادات. الأمر الذي سيفاقم الضغط على سعر الصرف ويقفز به إلى معدّلات قياسية قد لا تخطر في البال.

أكثر من ذلك تفيد دراسة للباحثة الاقتصادية د. ليال منصور، مبنية على مؤشّر "الاجهاد المالي - FSI" FINANCIAL STRESS INDEX، أنّ "كلّ الأزمات المالية (السابقة للانهيار الاقتصادي) والتي خرجت عن السيطرة، نتجت عن الصراعات الجيوسياسية الخارجية وليس الداخلية. فالمشاكل الداخلية المتعلّقة بتراجع التصنيف الائتماني، واستقالة الحكومة والتأخّر بانتخاب رئيس للجمهورية... لم تتسبّب إلّا بأزمة مالية بسيطة بقيت تحت السيطرة". وتستنج منصور في الدراسة أنّ "الأسواق المالية تستجيب بشكل سلبي في أوقات النزاع مع إسرائيل. وهذا ما يؤدّي إلى استنزاف العملات الأجنبية في المصرف المركزي، وبالتّالي إلى عدم الاستقرار، وتوقّع المزيد من الضغوط على النشاط الاقتصادي".

فقدان الأمنين الغذائي والطاقوي

لغاية كتابة هذه السطور "لا يوجد أيّ إشكال في الإمداد الغذائي إلى لبنان"، بحسب نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي. وذلك لغاية الأسابيع الأربعة القادمة على أقلّ تقدير. فطالما المستوردون قادرون على تأمين الطلبيات، والمرفأ يعمل بشكل طبيعي، فإنّ الأمور تبقى تحت السيطرة". إلّا أنّ هذا الواقع لن يلبث أن ينقلب رأساً على عقب في حال تطوّرت الاشتباكات الباردة إلى ساخنة. ولعلّ أكثر سلعتين ستشهدان ضغطاً كبيراً وبوقت قياسي هما القمح والنّفط. وهذا يعود بشكل أساسي إلى عدم امتلاك لبنان مخزوناً استراتيجياً من هاتين السلعتين الأساسيتين. فإهراءات القمح المركزية التي كانت تتسع لنحو 120 ألف طن، تهدّمت بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020، ولم يجر لغاية اليوم إنشاء بديل عنها رغم كل الوعود. ويعتمد لبنان على ما تخزّنة المطاحن الاثنتي عشرة بطاقة استيعابية حدّها الأقصى 120 ألف طنّ أيضا. إلّا أنّه بسبب ارتفاع الأسعار وحالة عدم اليقين من المتوقّع أن لا تكون المطاحن تخزّن كامل طاقتها الاستيعابية. وعليه أمام طلب شهري يتجاوز 50 ألف طنّ في الأزمات فإنّ ما يوجد في لبنان من قمح قد لا يكفي لأسابيع قليلة.

أمّا بالنّسبة للمحروقات فإنّ الوضع ليس أفضل حالاً. العقد الموقّع مع شركة روسنفت في العام 2018 لتأهيل خزّانات مصفاة الشمال وبناء خزّانات جديدة ما زال يراوح مكانه. ذلك مع العلم أنّ العقد يفترض بدء الشركة الروسية الأعمال فور توقيعه، وهي تمتدّ على 5 مراحل لمدة 7 سنوات تنتهي بتأمين سعة إجمالية تفوق 400 ألف متر مكعّب.

على غرار القمح، لا يملك لبنان أيّ احتياطي استراتيجي نفطي، خارج إطار خزّانات الشركات الخاصة. ويكفي حدوث ما بالحسبان حتّى تقف المحطات والأفران وتتحول السلعتان إلى السوق الموازية بأسعار خيالية.

مصير التنقيب عن النفط

في شقّ لا يقلّ أهمية تثار التساؤلات عن مصير التنقيب عن النّفط في الرقعة البحرية رقم 9 – حقل قانا، في حال اشتدّت وتيرة الاشتباكات ودخل لبنان الحرب. وعلى الرّغم من أنّ قواعد الاشتباك الجديدة غير المعلنة والمتفق عليها في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، قد فرضت بحسب الخبراء عدم استهداف المنشآت النفطية من جانبي المقاومة وإسرائيل، فإنّ تطور الأحداث قد يدفع إلى ما هو ليس في الحسبان وبما يتخطّى إيقاف أعمال التنقيب مؤقتاً. الأمر الذي يرفع من شأن المخاطر"، بحسب الخبيرة في مجال الطاقة ديانا القيسي. ويدفع المستثمرين إلى تأجيل القرار بالاستثمار النهائي خاصّة إذا ما حدث أيّ اكتشاف تجاري". وما يزيد من غموض الأمور بدء سريان شائعات عن ابلاغ كونسورتيوم النفط وزارة الطاقة وهيئة إدارة قطاع البترول انتهاء الحفر في البئر في البلوك رقم ٩ بعدما وصلت إلى عمق ٣٩٠٠ متر تحت قعر البحر من دون أن تجد النفط. وفي الوقت الذي نفى فيه الخبير في قطاع الطاقة فادي جوا، هذا الخبر جملة وتفصيلاً لم يستبعد بدء تعرّض لبنان لضغط وابتزاز أميركي أوروبي لإقفال ملفّ النفط.

عدم اليقين

في الوقت الذي يخيّم فيه الغموض على مصير غزة بشكل خاص والشرق الأوسط برمّته بشكل عام، "تعوم" على وجه التحديات الاقتصادية كلفة اللايقين، التي توازي بمفعولها دخول الحرب. ففي هذه المرحلة يؤجّل المستثمرون قراراتهم، ويحجم السياح عن القدوم، ويحجم الأفراد عن الانفاق، وتتحضر الرساميل للهروب، وتشلّ كل المرافق العامّة والخاصّة. وإذا كان من السهل تقدير الأكلاف المباشرة، فإنّ كلفة الفرصة البديلة عن الحرب يصعب التحقّق منها ولو أنّها لا تقلّ قيمة عن الحرب بحدّ ذاتها.