في بداية العام 2022، عاش العالم بأكمله أياماً طويلة على تصريحات وتهديدات وتساؤلات وتقارير استخباراتية، والتي كانت جميعها تتكهّن بهجوم روسي على أوكرانيا. انتهت هذه التكهّنات بتاريخ 21 شباط من العام نفسه عند دخول القوات الروسية إقليم "دون باس" من الشرق، وإعلان الرئيس الرّوسي فلاديمير بوتين بتاريخ 24 شباط عن تنفيذ عمليات عسكرية في أوكرانيا لنزع السلاح والقضاء على النازية، وشكّلت هذه التصريحات بداية لأكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

أكثر من عام ونصف على بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، ولم تحقّق القيادة الروسية أهدافها الرئيسية، وأصبحت بموقع الدفاع لصدّ الهجومات المضادّة التي يقوم بها الجيش الأوكراني مدعوماً بكمّيّات كبيرة من العتاد العسكري المتطور والتمويل اللازم من دول الناتو وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركية التي تخشى من أن يؤدّي سقوط أوكرانيا إلى تقدّم القوات الروسية إلى الحدود الشرقية لأوروبا، وهذا سيؤدّي حكماً إلى الانزلاق إلى الحرب الباردة من جديد.

هل أصبحت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حرب تقنيّات متطورة؟

بدأت أوكرانيا بتجميع خبراء سيبرانيين لديها ومن بعض الدول وخاصة الأوروبية منها، وذلك بهدف اختراق الأنظمة الروسية واستعمال الطائرات من دون طيار لإصابة أهدافها بدقّة متناهية، والسبب يعود الى افتقارها لمواردها الخاصة في صناعة الأسلحة التقليدية، وإحجام دول الناتو عن الاستمرار بمدّها بالعتاد العسكري كما كان الوضع في العام 2022.

بالمقابل كانت روسيا قد نقلت بدورها بعض فرقها الإلكترونية إلى الخطوط الأمامية، وتمكّنت من اختراق تقنّية الأجهزة الأوكرانية بواسطة الأجهزة الغربية التي استولت عليها.

بكلّ تأكيد، ومن دون أدنى شك، إنّ الأسلحة المتطوّرة والتكنولوجيا الحديثة والهجومات السيبرانية هي جزء أساسي في المعارك والحروب، لكن يبقى دور الأسلحة التقليدية الحديثة، وهي الأساس في حسم المعارك حيث تتطلّب مثل هذه الحملات المستمرّة تمويلاً كبيراً لصناعة المعدّات العسكرية التقليدية اللازمة.

خلال العام 2022 كان لدى أوكرانيا ميزة مهمّة جدّاً لا بل أساسية، وهي اعتمادها على مصادر خارجية للحصول على الدعم العسكري والمالي، وبالرغم من تخفيض هذا الدعم وتحجيمه من قِبَل دول حلف الناتو وعلى رأسها الولايات المتحدة خلال العام 2023، لا تزال أوكرانيا تتمتّع بذلك الدعم ولو بكمّيّة أقلّ. بالمقابل فإنّ روسيا يتعيّن عليها أن تعتمد على قدراتها الخاصّة في دعم جهودها الحربية بالرّغم من أنّ اقتصادها الذي تعرّض وما زال يتعرّض لعقوبات متزايدة باستمرار، فإنّ موسكو وتحديداً الجيش الروسي لن يواجه احتمال نقص في انتاج الأسلحة التقليدية مستقبلاً، وهذا لن يحدّ من قدرته على مواصلة شنّ المعارك لكسب الحرب. ولكن وبما أنّ موسكو تدفع نحو زيادة إنتاج الأسلحة التقليدية، فمن الممكن أن يؤدّي هذا المر إلى خسارتها سباق التسلّح المتطور مع الغرب.

هذا الواقع يمكن أن يدفع موسكو إلى التفكير باحتمالين لا ثالث لهما:

1- إجراء مفاوضات والخروج بتسوية تضمن مصالحها الاستراتيجية خصوصاً لجهة ضمّ المناطق الشرقية لنهر دنيبر، كون مصانع الأسلحة الروسية ستواجه صعوبات كبيرة لناحية تأمين زيادة انتاج الأسلحة التقليدية من دون أن يؤثّر ذلك على سباق التسلح مع الغرب، وموسكو لا تريد أن تتراجع مكانتها كواحدة من أكبر القوى العسكرية في العالم، وهي التي دأبت منذ ثلاثة عقود من الزمن على تعزيز وتطوير صناعاتها التي تهاوت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

2- استعمال أسلحة الدمار الشامل، فلقد نشرت روسيا ولأوّل مرة طائرات اعتراضية مقاتلة من طرازMIG 31، والقادرة على حمل صواريخ باليستية تطلق من الجو تفوق سرعتها سرعة الصوت، بالإضافة الى الجهوزية العالية لهذه الصواريخ المنتشرة في البرّ الروسي وفي البحر.

وفي ظل هذين الاحتمالين القائمين تستمرّ الحرب لأنّ لا قدرة لأحد من الطرفين على إيقافها من دون تحقيق أيّ إنجاز أو هدف.

لنرَ ما ستخبّئه الأيام والأشهر القادمة من تطوّرات على الساحة العالمية، ومع كلّ هذا سيظلّ اعتماد روسيا على نفسها من دون دعم خارجي تحديداً لناحية تأمين تطوّر التكنولوجيا العصرية على الرغم من وجود دافع لدى موسكو منذ تسعينيات القرن الماضي بوجوب تحقيق الاكتفاء الذاتي بجميع مواردها وخاصة البشرية والتقنية منها، لكن، ومن دون الوصول إلى مستوى التكنولوجيا الغربية فإنّ إنتاج أسلحة متقدمة ومتطورة وفعّالة سيكون أمراً بالغ الصعوبة.

ختاماً، يمكن التأكيد على أنّ تقدّماً ملحوظاً حصل في زيادة انتاج الأسلحة التقليدية الروسية خلال حربها على أوكرانيا، والأسئلة التي يمكن طرحها:

- هل روسيا قادرة على توفير احتياجاتها الدفاعية في ساحات أخرى خارج أوكرانيا؟

- هل روسيا قادرة على الاستمرار في الانتاج العسكري إذا استمرّت الحرب في استنزاف مواردها المالية والبشرية؟

- هل روسيا قادرة على الاستمرار في بيع الأسلحة وتصديرها أم أنّ هذا القطاع أصبح في خطر؟

- هل ستعمد روسيا إلى استعمال سلاح الدمار الشامل لتدمير ما تبقّى من البنى التحتية الأوكرانية، ما يجبر أوكرانيا على الاستسلام؟

إنّ غداً لناظره قريب.