عندما يخرج البطل مهزوماً في نهاية فيلمٍ ما، يعيده المخرج في الجزء الثاني على شكل البطل منتقماً. وعادة ما يحمل الفيلم اسم الجزء الأوّل مضافاً إليه كلمة: "the revenge". هذه الصورة التي ترافق نشأة متّتبعي الأفلام الهوليوودية، يعيشها اللبنانيون بحذافيرها في "فيلم" الكهرباء. فالتعرفة "المنكسرة" منذ ثلاثة عقود بالتمام والكمال، عادت لتثأر من أصحاب العدّادات بتسعيرة خيالية لا مثيل لها على وجه الكرة الارضية.

ظلّت تعرفة الكهرباء في لبنان ثابتة منذ العام 1994، عندما حُدّدت على أساس 22 دولاراً لبرميل النفط، ولغاية نهاية العام 2022. ولم تتأثّر بالارتفاعات المضطردة التي شهدتها أسعار النفط عالمياً طيلة ثلاثة عقود من الزمن، وتجاوز سعر البرميل لفترة وجيزة عتبة 140 دولاراً في العام 2008، ومعاودته القفز فوق المئة دولار مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. وكانت قيمة التعرفة تتراوح بين 35 ليرة للكيلوواط / ساعة، للاستهلاك الذي يقل عن 100 ك.و/س شهرياً، و 200 ليرة لما يزيد عن 500 ك.و/س.  وأعطيت المدارس ودور العبادة والمؤسسات الحرفية تعرفة تفضيلية زهيدة. وعليه فإنّ فاتورة منزل يستهلك على سبيل المثال 250 كيلوواط شهرياً في نهاية العام 2022 كانت تقارب 25 ألف ليرة، أو ما يعادل نصف دولار أميركي بسعر الصرف في السوق الموازية. وهو الأمر الذي يتخطى المنطق، ويصل إلى حافة الجنون.

رفع التعرفة الحلّ الأسهل

التعرفة المتهاوية التي فقدت المنطق منذ العام 2000، حين تجاوز سعر برميل النفط 27 دولاراً عقب انخفاضات كبيرة خلال السنوات السابقة، كانت تُغطى من سلف الخزينة. وقد تجاوزت السلف مع الفوائد المعطاة للكهرباء من أجل شراء الفيول، وتأمين قطع الصيانة، وتغطية الهدر، واعتماد الحلول البديلة مثل بواخر الطاقة، 40 مليار دولار. إلّا أنّه مع بدء الأزمة في العام 2019، والانهيار التدريجي لليرة، لم تعد إمكانية الاستدانة لشراء الفيول بواسطة السلف سهلة، وفقدت الأموال التي تتم جبايتها من الفواتير قيمتها. وعليه ألغيت كل الخطط القديمة على عيوبها الكثيرة، المتدحرجة من العام 2011، لإصلاح القطاع، وانتقلت وزارة الطاقة إلى خطّة الطوارئ التي وجدت أنّ الحل الأسهل لتأمين الحدّ الأدنى من الكهرباء العامّة، هو رفع الفواتير بشكل كبير جداً ودولرتها. فانتقل العبء إلى كاهل المواطنين الملتزمين بالدفع، من دون أن يتنعّموا بتغذية تغنيهم عن اشتراكات المولدات الخاصة. فعلقوا في تعرفتين تمتصان شهرياً كامل الحدّ الأدنى للأجور المحدّد مؤخّراً بـ 9 ملايين ليرة. هذا طبعاً إذا افترضنا أنّ تعرفة الكهرباء تبلغ 18 دولاراً بالحدّ الأدنى لاشتراك 15 أمبير، و70 دولاراً للاشتراك المقطوع.

الكيلوواط بـ 40 سنت

تعرفة الكهرباء شكّلت تحدياً جدياً للمشتركين الأفراد، وللمؤسسات ولا سيما الصناعية منها على حد سواء. خصوصاً أنّ "التسعيرة الموضوعة بعيدة جداً عن الواقع، وهي تحتسب بالدولار على سعر أعلى حتى من سعر الصرف في السوق الموازية"، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين بول أبي نصر. فتعرفة الكهرباء تحتسب على أساس صيرفة بلس، أو ما يعني السعر المعتمد على منصّة صيرفة + 20 في المئة. ما يعني أنّ دولار صيرفة للكهرباء يبلغ 103560 ليرة، في حين أنّ سعر الصرف في السوق الموازية يبلغ 94700 ليرة. وهكذا زادت الكهرباء 10 في المئة على الفواتير قبل أن يبدأ المشتركون بالاستهلاك. النقطة الثانية التي لا تقلّ خطورة في تعرفة الكهرباء هي أنّ كل التكاليف الثابتة التي تتضمنّها التّعرفة، والتي هي عبارة بدل تأهيل بقيمة 4.5 دولار، ورسم العدّاد بقيمة 21 سنتاً للأمبير الواحد موضوعة على سعر أعلى من سعر الصرف في السوق الموازية. وهي تكاليف لا ترتبط بحجم الاستهلاك. وسواء تأمّنت الكهرباء لساعة أو لـ 24 ساعة، فإنّ الكلفة ثابتة، وهي تصل في بعض المصانع إلى أكثر من 50 مليون ليرة من دون أن تستهلك حتى كيلوواط ساعة واحد.   


نائب رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين بول أبي نصر

بحسبة سريعة مبنية على الفواتير المصدّرة حديثاً على أساس التّعرفة الجديدة، يتبيّن أنّ سعر الكيلوواط ساعة لم يحتسب على أساس 27 سنتاً كما هو مقرّر نظرياً، إنّما بلغ أكثر من 40 سنتاً. "في المقابل تتراوح كلفة الكيلوواط ساعة من مولّد الديزل الذي يعمل على المازوت بين 27 و30 سنتاً مع احتساب سعر المازوت وأكلاف الصيانة وكلفة الاستهلاك أو الاستبدال"، يضيف أبي نصر. "فلماذا نُبقي إذاً على عدّادات الدولة! فالصناعيّون الذين يعتمدون على مولّداتهم الخاصّة يوفرون ما لا يقلّ عن 10 سنت بكل كيلوواط مستهلك. فما الجدوى من الإبقاء على كهرباء الدولة، ومن الأوفر لهم إنتاج كهربائهم الخاصّة بدلاً من شرائها من مؤسسة كهرباء لبنان.  

بانتظار رد "الطاقة"

الصناعيون نقلوا هذه الإشكالية إلى وزارة الطاقة قبل مدّة ليست بطويلة وطالبوها بالتالي:

- إزالة كلّ التكاليف الثابتة من الفاتورة.

- تخفيض كلفة الاستهلاك إلى رقم يوازي كلفة الإنتاج في معامل الكهرباء المقدّرة ب 14 سنت للكيلوواط مع إضافة ربح معقول بنسبة قد تصل إلى 20 في المئة، أو ما يوازي 3 أو حتى 4 سنت على كل كيلوواط فتصبح التعرفة بحدود 20 سنتا.

المشكلة أنّ الهدف من رفع تعرفة الفواتير هو التعويض عن الهدرين الفنّي وغير الفنّي اللذين تجاوزا 50 في المئة. وبحسب أبي نصر "لا يمكن للأفراد بشكل عام، وللصناعيين بشكل خاص دفع فواتير كهرباء مضاعفة، بدلاً عن المؤسسات العامّة والمناطق والأفراد الذين يعلّقون على الخطوط أو يتهرّبون من تسديد الفواتير". وقد بيّنت الدراسات التي وضعت قبل رفع التعرفة أنّ تسعيرة الكيلوواط بـ 27 سنتاً كفيل بتغطية كلّ مصاريف مؤسسة الكهرباء مع كل الخسارات الناتجة عن الهدر والفساد. ومع هذا رفعت "الطاقة" التعرفة إلى 40 سنتاً، بإضافة التكاليف الثابتة بما يخالف أبسط قواعد المنطق والعدالة.


"نفضّل أن نقفل ولا نأخذ كهرباء من الدولة على هذا السعر"، هذا هو لسان حال الصناعيين، الذين وعدوا خيراً من وزير الطاقة بالعمل على تخفيض سعر الكيلوواط إلى 21 سنتاً كحدّ أقصى، فهل تصدق الوعود؟ الجواب رهن القادم من الأيام.