فجأة أظهرت القمّة التي استضافتها السعودية في جدة، أنّ المشهد الحزين في العالم العربي يمكن أن يكون مؤقتّاً، ويمكن أن يتغير، وأنّ ما بدا مستحيلاً في الأمس قد يصير متاحاً في المستقبل.

لا يوجد وصفات سحريّة لعلاج الأزمات الخطيرة التي تعيشها الدّول العربية. لا قمّة ولا اثنتان ولا ثلاث قادرات على اجتراح الحلول لمشكلات تراكمت منذ عقود، ونخرت جسم الإقليم من الخليج إلى المحيط، وعبثت بالخرائط وشرّعت الحدود لكل أنواع التدخّلات الخارجية، وأغرقت شعوباً بالدّم وفرّقت أمماً إلى عشائر وقبائل وملل، وأفرغت خزائن ودمّرت اقتصادات ونشرت الفقر والجهل والتعصّب والحرمان وشتّى أنواع الاستبداد.

حال العالم العربي، أشبه بحال السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين، هو الآن "الرّجل المريض" في مطلع القرن الجديد. دوله وأراضيه ملاعب مفتوحة للأحلام الامبراطورية للآخرين، يتبارزون فيها ويتقاسمونها من دون رقيب أو حسيب. النّار في السودان تلتهم شماله بعدما ابتلعت جنوبه، البركان المتفجّر في ليبيا يواصل لفظ حممه، زنّار الأزمات يطوّق مصر من الداخل والخارج ويجعلها هرماً رأسه في الرمال وقاعدته في الفلاء محاصرة من كل صوب، أهل اليمن يلملون أشلاء بلد كان يسمّى سعيداً لكنّه لم يذق طعم السعادة من زمان، وإذا كانت فلسطين هي النّكبة الأولى ولا تزال فإنّ مصاب سوريا هو النّكبة الكبرى. وفيما لبنان والعراق ينتقلان من أزمة ثقيلة إلى أزمات أشدّ ثقلا تهدّد النظام العام وتفتك بالمؤسسات والموازنات، تكابد تونس لتحقيق ربيع لم يأت بعد، وتعاني الجزائر من أوجاع العشرية الدامية. والحال ليس أفضل بكثير في الدول التي يمرّ بها الربيع. 

كل شيء يوحي أنّ المسار انحداري، وأنّ ما يصيب العالم قدر لا يردّ، وأنّ مفاتيح الحلول للأزمات الكبرى المتفشية كالوباء في كل الجسم العربي، خرجت من العواصم العربية والجامعة وصارت في كواليس الدول الكبرى المؤثّرة إقليمياً ودولياً التي تنتظر أو أنّ التسويات لرسم مصير العرب. 

لكن فجأة أظهرت القمّة التي استضافتها السعودية في جدة، المشهد الحزين في العالم العربي يمكن أن يكون مؤقتّاً، ويمكن أن يتغير، وأنّ ما بدا مستحيلاً في الأمس قد يصير متاحاً في المستقبل. ظهرت على غير ما سبقها من قمم وبدت وكأنّها تؤسّس لمسار جديد مختلف عن المسار السائد. القمم السابقة كانت عبارة عن مصافحات ومجاملات لا تبدّد الخلافات ولا تحلّ الأزمات. كانت تنتهي ببيانات الإدانة والاستنكار الخالية من البرامج والأفعال والخطط. في جدّة تغيّرت اللغة وحلّ المشروع محل التمنّيات. اعتمدت قراءات جديدة للحاضر والمستقبل، تقوم على مفردات الاستقرار والازدهار والتنمية والتعايش والتسامح والتعاون وسيادة الدول واحترام المؤسسات ومكافحة الفساد.

قمّة جدّة انتهت بإعلان خريطة طريق ومشاريع مستقبلية، مبنية على تفكيك الرّاهن ونقد الماضي كعتبة دخول الغد. وأظهر البيان أنّ هناك انعطافة في طريقة التّعاطي مع المشكلات المتجذّرة في واقعنا العربي، والتي كانت انتفاضات الشعوب العربية نتيجة لها بقدر ما كانت مشكلة إضافية فوقها، وركّز على المبادرات المستدامة، ومعالجة التحدّيات عن طريق نهج اقتصادي حديث وتصوّر استثماري مختلف. وأولى اهتماماً بالعلاقة مع الخارج، بعدما تبين أنّ غالبية المشكلات العربية، في العقد الأخير، كانت تعالج بعيداً عن الإطار العربي، أمّا اليوم فهناك لجان متخصّصة لكلّ الأزمات القائمة من سوريا وفلسطين إلى السودان إلى ليبيا، قد لا تثمر نتائج سريعة لكنّها البداية. طبعا، العقلانية الجديدة تفترض عدم المغالاة، لكنّها في الوقت نفسه تتطلّب الإصرار على أنّ ما يجري ليس قدراً محتوماً، وأنّ الأقفال مهما اعتراها الصدأ يمكن أن تفتح.

القمّة أتت في سياق تغييرات سبقتها، وكان لها أثراً إيجابياً على مناخاتها ومفرداتها والقرارات. أبرزها حدثين كبيرين: الأوّل، الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران في بكين الذي أحلّ لغة الحوار والتفاهم بين القطبين البارزين في الإقليم بديلا عن أسلوب التناحر والخصام والحروب بالوكالة، الأمر الذي أفسح المجال لفرص إيجاد تسويات ممكنة لأعقد الأزمات القائمة لاسيما في اليمن وسوريا ولبنان والبحرين والعراق، ولإعادة مدّ جسور العلاقات العربية الإيرانية، والثاني، إعادة تفعيل العلاقات التركية العربية ودفعها نحو الأفضل بعد ما اعتراها من نكسات في العقد الماضي.

ووسط هذين الحدثين الإقليميين، كان الحدث العربي الأبرز المتمثل باستعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية ومشاركة الرئيس بشار الأسد في القمّة، الأمر الذي من شأنه ترميم مظلّة عربية جامعة لاحتواء ما يمكن احتواءه من مشكلات، ومساعدة الشعب السوري في الخروج من أصعب المحن التي مرّ بها، والتأسيس لحلّ سياسي يرضي كل فئاته.

لكن الأمر الأهم، وهو التغيير الكبير في السعودية التي تتهيّأ أن تكون لاعباً كبيراً على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، عبر رؤية جديدة تحسن إدارة التفاوض وإدارة الشراكات مع هذه الدول بما يحقق مصالحها ومصالح الكتلة العربية. وتعتمد سياسة مدّ الجسور مع واشنطن وكل من موسكو وبكين من دون السقوط في التطابق، بل بتوفير مناخات تعاون لحلّ المشكلات على قاعدة احترام المصالح. وهذا ما جعل المملكة تستضيف في آن واحد كلّاً من الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي ونظيره السّوري تحت سقف واحد، تعبيراً عن قدرتها على إدارة الاختلاف مع الدول العظمى، والحفاظ على مساحات الاتفاق.

ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي رسّخ شعبيته الداخلية بإصلاحاته الاستثنائية، ووازن سياسته الخارجية بين الغرب والشرق، وصفّر المشاكل مع الجيران، وضع في قمّة جدّة اللبنات الأولى لمشروعٍ عربي ستكون السعودية في طليعته، على أن لا تكون خاضعة فيه لأي تحالفات صنعت في الخارج.

ربما ينظر البعض إلى التطبيع مع سوريا باعتباره مساهمةً من السعودية في جهود إحياء العلاقات مع إيران، لكن التطبيع السوري يُعَدّ جزءاً لا يتجزّأ من تلك الاستراتيجية الجديدة في الواقع، وهي استراتيجية تسعى لإنهاء الحروب والتوتّرات في كل أنحاء الشرق الأوسط، حيث تسعى الرياض إلى خلق حالة توازن رادعة بدلاً من الاستمرار في تزعّم التحالف المعادي لإيران، مما سيتطلب تنسيق إيران لجهودها مع الدول العربية وخصوصاً السعودية في مقابل المزايا السياسية التي ستضمنها المملكة.

ولا شكّ أنّ إحياء العلاقات مع السعودية وعودة سوريا إلى الجامعة العربية هي إنجازات مهمة بالنسبة لإيران. حيث إنّ ذلك يمنح طهران ودمشق نوعاً من الشرعية في العالم العربي، مما سيجرّ شرعية دولية في النهاية، في المقابل، قد تحصل الرياض على سلطة إنهاء الأزمة في لبنان، والأهمّ في حرب اليمن التي أضنتها.

حتماً إنّها أنباء غير سارّة لإسرائيل حيث يتداعى تحالفها المعادي لإيران أمام أعينها. فضلاً عن انهيار معادلة الثنائي التقليدي الذي كان مفاده إنّ الدول الصديقة لأميركا لا تستطيع التحالف مع إيران. في الواقع تجري حالياً عملية إعادة ضبط لمعادلة "إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا"، لكن إعادة الضبط تجري بواسطة السعودية وليس إسرائيل.