يطلّ علينا التّيئيس بأشكال مختلفة فيها الكثير من التّشويق. أحداث كثيرة على جبهات عدّة والنتيجة تصب في خانة واحدة، المزيد من القهر والخوف والاشمئزاز.

بعيداً عن المطابخ العالمية المعنية بطبخة البحص اللبنانية للتوافق الخارجي حول رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، يبدو أن الأطباق اللبنانية المتنوعة والمشهورة أصابها الكساد كما أصاب طهاتها المحلّيين اليأس. وهو يأس ينتشر أسرع من وباء وهو يدفع مستقبل لبنان الشاب إلى الهجرة بحثاً عن استقرار ما، طالما أنّ سياسة النهوض الموعودة لا تلحظ جديداً. فلا داعي للضحك على بعضنا البعض، لبنان المستقبل يراهن على تصدير شباب المستقبل ليعيلوا أهلهم، بدلاً من الاستثمار في الزراعة والصناعة وما شابه.

قد يكون من المفيد إبلاغ المطابخ الدّولية بأنّنا لن نصدّر خيارنا ولا فاكهتنا ولا صناعتنا، نحن لن ننافس أحداً سوى على الاستيراد. استيراد سيّاح لخدمتهم. وبانتظار السياح بعد سماح دولهم لهم بالمجيء إلى ربوعنا، ننتظر من الدول نفسها ولو هزة رأس للموافقة على رئيس يحمل مشروع الاستثمار في هجرة الشباب وتمديد العمل بمشروع لبنان السياحة والخدمات. صحيح أنّ دول المنطقة تخطّتنا في هذا المجال، وتلك التي لم تكن تعرف سياحة أو خدمات أصبحت رائدة فيها، وهي تضيفها إلى قطاعات متنوعة ومتعددة ومصادر دخل أخرى. ولكن قد يكون مشروع لبنان المقبل لا يزال يعيش في زمن كان الخليج فيه صحراء وكنّا سويسرا الشرق.

إنّه اليأس يا سادة، سياسة تُمارس على اللبنانيين بوقاحة قلّ نظيرها إنّها سياسة التّيئيس.

تبدو السلطة السياسية وكأنّها مستقيلة، رغم أنّ الحكومة المستقيلة تجتمع، تدرس، وتقرّ إلّا انّها أكثر من مستقيلة. المجلس النيابي يجتمع ولا يجتمع بانتظار التوافق على انتخاب رئيس للبلاد يبدو التشريع مش مشروع. رئيس الجمهورية انتهت ولايته ولم يصر إلى انتخاب رئيس جديد، ما يعني أن الموقع شاغر. المؤسسات العامة تعمل بالمداورة بين الموظفين "الفعليين" بما يعني أن المؤسسات التي تم حشوها بآلاف الموظفين والمتعاقدين المنتفعين بلا عمل كان يقابلهم قلّة تعمل. ومع تراجع التقديمات الوظيفية أصبحت القلّة أقلّ بكثير، وغالباً لا تعمل. حتى الأجهزة الأمنية تعمل بنصف طاقتها في وقت يرتاح فيه النصف الثاني، ليس حبّاً بالرّاحة إنّما لعدم قدرة العناصر والأفراد على الحضور بشكل يومي نظراً لكلفة هذا الأمر مادّيا.

هي الدّولة المستقيلة من الوطن والشّعب. أمّا المواطن فيكبر مع يأسه كتوأم، وغالباً يكبره يأسه، ولسان حاله يقول: هَرِمنا، هُزِمنا، خُدعنا.

يتراكم التيئيس حتى يكاد يقطع انفاس الناس، بمعزل عن واقع الاستقالة وانطلاقا من إصرار رئيس الحكومة على عقد جلسات لمجلس الوزراء لمتابعة القضايا الملحّة، لا يشعر اللبنانيون أنّ هناك حراكاً جدياً لمعالجة أزماتهم المستفحلة والمتفاقمة.

الواقع المالي من سيّء إلى أسوأ، تعاميم وتدابير وتدخّلات لم تنجح في تخفيض سعر الصّرف بدرجة مقبولة. حتى اللحظة يقارب سعر الدولار الأميركي عتبة المئة ألف ليرة بعدما كان تخطاها قبل أيام.

المودعون ينتظرون معجزة أن تفرج المصارف عن أموالهم. تخيّل من أفنى عمره في تجميع مبلغ من المال يعينه بعد تقاعده، يحضر إلى المصرف ليسحب من ماله وفق رغبة المصرف وهواه، مع العلم أن حجم السحوبات مقونن بشكل شهري وبسقف أشبه بالأرض منه بالسقف نظراً لتدنيه.

ينتظر اللبنانيون قريباً انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة، وهو الذي ارتبط اسمه بالعديد من التحقيقات القضائية المحلية والدولية تتصل بعناوين فساد وغسيل أموال أو إهمال وظيفي، ورغم كل هذا لا يزال يمارس عمله وكأنّ شيئاً لم يكن، حسناً هو لم يستقل من منصبه حتى اللحظة ولكن هناك سؤال كبير حول هوية من سيخلفه؟ فكيف سيصار إلى معالجة هذا الأمر بغياب رئيس للجمهورية؟

الواقع الاقتصادي والتجاري مرتبط بسعر الدّولار الجمركي، مع توجّه لاعتماد سعر السوق. وهذا الأمر يقع تحت خانة زيادة الرسوم والضرائب وهي خطوة لتحصيل دخل للدولة لزيادة الأجور. وما إن تتم زيادة الأجور حتى يرتفع الدولار من جديد فتصبح الزيادة لزوم ما لا يلزم. وتبدو وكأنها محاولات لعلاج أزمة قلبية بشريط لاصق للجروح. فهل ييأس العمال من طلب زيادة الأجور إن كان مصدرها هو فرض المزيد من الضرائب عليهم؟

ما يزيد على نسبة ثلث سكان البلاد من النازحين السوريين المنتشرين في أرجاء الجغرافية الوطنية، لا رؤيا حقيقية لمعالجة واقعهم في بلد بحاجة لعلاج واقعه. تحضر وتغيب توتّرات موسمية على خلفية عنصرية حيناً ووطنية حيناً آخر واجتماعية معيشية كذلك، يضاف إلى كلّ ما سبق هاجس الخوف على الهوية الوطنية وديمغرافية البلاد. أغلب الدول العربية استعادت علاقتها بالنظام السوري، والواقع المني في سوريا لم يعد مصدر قلق لأحد. إلّا أن السوريين في لبنان يتكاثرون ويثبتون أقدامهم بدعم من مادي ومعنوي من المنظمات الدولية والهيئات التابعة للأمم المتحدة. ويقابل هذا الواقع هجرة الشباب اللبناني وكثير من العائلات اللبنانية بحثاً عن الاستقرار خارج الحدود اللبنانية.

لا فرص عمل، والعمل إن وُجد فهو بعائدٍ لا يغني عن جوع. أما الشباب الذي يتخرّج من الجامعات الوطنية وبعض الجامعات الخاصّة فهو يواجه مشكلة تراجع المستوى التعليمي في البلاد. كفاءات كثيرة تركت التعليم نتيجة تدنّي التقديمات، أو نتيجة عروض أفضل في الخارج. وهذا التراجع بالمستوى ترك أثره حتى بطلبات التلامذة متابعة تحصيلهم في الخارج. أمّا من يحالفه الحظ ويتخرّج فهو ونتيجة تراجع الحصص التعليمية والمستوى المقبول أصبحت فرصه ضئيلة في الحصول على وظيفة.

ارتفاع أسعار خدمة الاتصالات يشكّل مشكلة أيضاً بالنسبة للعديد من المؤسسات الصغيرة وحتى الأفراد الذين يعتاشون من هذا القطاع.

مع اقتراب فصل الصيف سترتفع صرخة المواطنين من شح المياه وكلفة شراء مياه الخدمة المنزلية وهي فاتورة ستضاف إلى فاتورة اشتراك الكهرباء الخاصة بالمولّدات، مع ارتفاع تسعيرة كهرباء الدولة، مع الخشية أن تتراجع التغذية بالتيار الكهربائي النظامي مع اقتراب الاعتمادات التي فُتحت على الانتهاء. فهل تعود مؤسسة كهرباء لبنان إلى العتمة الشاملة؟

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

يطلّ علينا التّيئيس بأشكال مختلفة فيها الكثير من التّشويق. أحداث كثيرة على جبهات عدّة والنتيجة تصب في خانة واحدة، المزيد من القهر والخوف والاشمئزاز.

ويبقى السؤال في الخلاصة هل تأتي سياسة التيئيس برئيس، فتنهض البلاد من كبوتها، وتذهب العباد إلى الحقول والمصانع والمؤسسات والمدارس والجامعات، ويعود المهاجرون إلى ربوعنا ويعود الدولار إلى قواعده سالماً؟ "إذا مش ألفين تلات آلاف إذا مش التنين الخميس".