داود ابراهيم

مرّت ذكرى 13 نيسان الـ 48 بالأمس، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، أو هو التاريخ الذي شعّل المواجهات التي كانت متقطّعة قبله فتحولت إلى حرب.

حلّ 13 نيسان بالأمس ولكنّه لم يكن ذكرى، كان التاريخ حاضراً بشكل طبيعي. البلاد منقسمة بين فريقين أو أكثر. السلاح متفلّت، بيد أفراد وجماعات، ما يحول دون المواجهة العسكرية هو الرغبة الخارجية بالحفاظ على الاستقرار الأمني لاعتبارات مختلفة، لأن الداخل وعلى لسان غالبيته ينتظر الحرب بفارغ الصبر. هذه المرّة لم يكن السلاح الفلسطيني مدعوماً أو داعماً للحركة الوطنية بمواجهة الجبهة اللبنانية. قد يكون النزوح السوري مضافاً إلى اللجوء الفلسطيني على مقلب الطرف المسلم بمواجهة الطرف المسيحي الذي يخشى من تغيير ديموغرافي ومن دين براون جديد يعرض عليهم الهجرة، مع إمكانية أن يلتقي سليمان فرنجية الحفيد إذا حالفه الحظ ووصل إلى سدّة الرئاسة، بعدما كان الجدّ قد رفض العرض حينها.

لطالما أدمن اللبنانيون لعبة البحث عن الاختلافات، قد تكون أكثر جاذبية رغم صعوبتها أحياناً. لم تتعلم الجماعات المكوّنة لهذا الوطن من تحديد نقاط التشابه والتلاقي في ما بينها ولم تعمل على ترسيخها. تَلهّت بصورة الكنيسة والمسجد وتجاورهما الجغرافي، ولم تعمل على بناء جسور حقيقية بينهما، فبدا وكأن كلاً منهما في جزيرة.

هو شهر نيسان الذي يبدأ بكذبة فهل كان الوطن أيضا كذبة، هل عاش لبنان فعلاً كوطن يتساوى فيه أبناؤه؟ هل شهدت هذه البقعة المقدّسة من الأرض ما يشبه المواطنة؟ أم كان مجرّد أمنية لم تتحقق وخلناها حقيقة حتى اكتشفنا خطانا وخطيئتنا؟ جماعات وجدت نفسها على بقعة جغرافية واحدة، رسموا لها حدودها وحدّدوا لها دورها، لم ترق لها الحدود، بعضها أراد حدوداً ضيّقة على قياسه، وبعضها أراد حدوداً أبعد تصله بقومية أوسع، وبعضها أراد بعداً يربطه بأمّة. وصار لكل جماعة مشروع، ولم ينجح من مشاريعها إلّا إفشال مشروع الوطن الواحد الموحد لجميع أبنائه.

أبدع بعضهم بصناعة الخوف والتخويف، صوّروا الآخر على أنه بعبع أو فزّاعة، تكاثرت الفزاعات حتى لم يعد من مساحة لزرع، ولم يعد من متسع لطائر، فهاجرت كل الطيور وكل من له أجنحة، ومن لم يملكها تراه يبحث عن أجنحة تحمله بعيداً.

تنوعت أشكال الحرب التي عرفها لبنان. بالسلاح فسقط عشرات الآلاف من الضحايا. بمشاريع الاستدانة التي رهنت البلاد والاقتصاد والمال فلم يعد من عمل ولم يعد من قيمة للعملة الوطنية، وتبخّرت أموال المودعين في المصارف. بضرب القطاع الزراعي والصناعي أفلست القطاعات وهاجر رأس المال، بالنازحين الذي قاربت أعدادهم أعداد نصف اللبنانيين ما انتهى بموجة هجرة لبنانية جَماعية تعزّز هواجس الخوف على الهوية إن كان من هوية، بالحصار الذي خنق البلاد والعباد.

اليوم وُلد من أمس، وحاضرنا نتاج هذا الماضي الذي لم نتعلّم منه إلّا هَدْر الفرص. محكومون بالعيش معاً يقول طرف، ولكنه عيش وفق ما يريده هذا الطرف لغيره. تعيشون معنا وفق شروطنا أو لا مكان لكم، ولكنه عيش مشترك. ولكل طرف رؤياه لهذا العيش وظروفه وشروطه. وبدل البحث عن نقاط الالتقاء ينصَبّ التركيز على ما نختلف فيه بطقوسنا وعاداتنا واجتماعياتنا.

حلّت الذكرى وكما في كل عام تبارت وسائل الإعلام اللبنانية على التذكير بمساوئ تلك الحرب ومخلّفاتها خلال نشراتها الإخبارية. لم يُخصَّص للذكرى برامج خاصة بالشكل المعتاد، كونها تحلّ هذا العام خلال شهر رمضان الذي تخصّص له الشاشات الصغيرة برمجة تتضمن مسلسلات وبرامج ومسابقات. هذه الشاشات هي نفسها تتحول في لحظة إلى منصّة لإطلاق الصواريخ ولزرع المفخخات وتلعب دور الرياح التي تساهم في توسيع رقعة انتشار الحرائق. شاشات صغيرة تلاقيها شاشات الهواتف النقالة الأصغر حجماً في مهمة واحدة، وهي دعم هذا الطرف في مواجهة هؤلاء الخصوم.

نختلف على من أين نبدأ بالمحاسبة فيحصل أن تضيع المسألة. نطرح قضية الكابيتال كونترول فتتحول من بند طارئ إلى مشروع بحث في اللجان، واللجان مقبرة المشاريع، وينتهي الموضوع باختلاف في وجهات النظر ويغدو بلا معنى تحقّق أو لم يتحقّق.

ننتظر وعداً من الخارج بتسهيل وصول رئيس للجمهورية، كلمة انتخاب تصبح شكليّة طالما هي تنتظر نجاح باريس في إقناع عواصم المجموعة الخماسية بالقبول بمرشح للرئاسة مقابل رئيس للحكومة. ننتظر من الخارج أن يسمح لنا أو يسهّل علينا استخراج ثروتنا النفطية من البحر، هذا الخارج هو نفسه الذي لم يفِ بتسهيل استيرادنا للغاز والنفط من مصر والأردن عبر سوريا رغم كل وعوده التي بقيت حبراً على ورق.

حصار خارجي على لبنان يقول أحدهم. فيردّ عليه الأقرب إليه نافياً وجود حصار. يلتقيان معاً لوضع تصور للخروج من واقع لا يتفقان على توصيف أسبابه. ويدعوان الآخرين للموافقة على رؤيتهما للحل. سيادي هذا الفريق ولكنه يخشى موافقة راعيه الإقليمي على تسوية لا تحفظ له دوره، فتجده حاضراً لرصد كل لقاء خارجي وكلّ همسة أو نظرة يمكن أن تشي بما يخالف تمنياته. تغييري ذاك الطّرف ولكنّه لم ينجح في تغيير بقية اللاعبين المحلّيين بالدّرجة الأولى فوجد نفسه يلاعبهم في ملعبهم فخسر نفسه ودوره. لم يعد من بيضة قبان مرجّحة، إنه زمن الفصح، وتكسير البيض عادة مستحبّة، لم يعد هناك من أقلّية تقلب المعادلة بوجود كتلتين كبار، توزعت الكتل على أقليات تحتاج بعضها بعضاً.

فهل يمكن أن تجد بعض الكتل النيابية المتفرّقة ما يجمعها، ليصبح هذا الجامع أكبر وأكبر بحيث يصل إلى الناخبين أنفسهم. هل يمكن أن يتحوّل الانقسام حول مرشّح إلى ورقة تجمع الرافضين على خيار مضاد يمكن أن يستقطب حتى الأضداد.

إن كانت الحرب هي زمن العذاب والصَلب، فلا بد أن نكون على موعد مع قيامة. أما آن الأوان؟