طارق ترشيشي
ثمّة أشياء كثيرة تتبدّل في المشهد الإقليمي في ضوء الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية الصين وكفالتها على تطبيع العلاقات بين الرّياض وطهران، وهو الأمر الذي بدأ على ما يبدو من جهة يؤرق الولايات المتحدة الأميركية، ومن جهة ثانية يقلق إسرائيل التي تمرّ علاقاتها بواشنطن في أسوأ مرحلة، وتشعر للمرّة الأولى أنّ ما حقّقته من تطبيع بدعم أميركي مع بعض الدّول الخليجية والعربية مهدّد بالتّلاشي، لأنّ المملكة العربية السعودية متمسّكة بشروطها للتطبيع معها، وأبرزها القبول بمبادرة السّلام العربية الشهيرة، زِد على ذلك أنّ اتفاقها مع إيران دفعها إلى التمسك أكثر فأكثر بتلك الشروط. علماً أنّ اسرائيل المأزومة داخلياً والمهددة بحرب أهلية تدرك جيداً أنّ تطبيعها مع بعض دول الخليج يبقى غير ذي نفع، ما لم توافق السعودية عاصمة المقدّسات الإسلامية بثقلها العربي والإسلامي والدولي على التطبيع معها.
الأرق الأميركي من اتفاق الرياض وطهران الذي بدأ تنفيذه رويداً رويداً، دفع واشنطن إلى إيفاد رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز إلى الرياض، طالباً منها كما تردّد في وسائل إعلامية، التّحلّل من هذا الاتفاق تحت طائلة إعادة النظر في العلاقات الاستراتيجية الأميركية ـ السعودية القائمة منذ 80 عاماً، لكنّه عاد إلى بلاده بخفّي حنين، لأنّ الرياض لم تستجب لطلبه حتّى في موضوع العودة عن قرار "أوبك بلاس" بخفض انتاج النفط حتى نهاية السّنة الجارية.
في ظلّ هذه الأجواء على وقع الأزمة الداخلية المتفاقمة داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي تهدّد حكومة بنيامين نتنياهو بالسّقوط، جاء اقتحام الإسرائيليين لحرم المسجد الأقصى والتّنكيل بالمصلّين واعتقال المئات منهم، ما استوجب من الفلسطينيين الرّدّ بعمليات من القدس إلى نابلس والضّفّة الغربيّة وغور الأردن وغلاف غزة، وفي الجليل الذي استُهدِف بعشرات صواريخ الـ "غراد" والـ"كاتيوشا" من المنطقة الجنوبية اللبنانية المحاذية.
ويقول متابعون لما جرى أنّ نتنياهو فوجىء بطبيعة الرّدود على اقتحام المسجد الأقصى هذه المرّة من حيث اتّساع رقعتها، وخصوصاً من جنوب لبنان، إذ للمرّة الأولى يطلق منه نحو 40 صاروخاً عدا عن الصواريخ التي اكتشفت في منطقة صور وفي سهل مرجعيون وكانت معدّة للإطلاق، وهذا ما دفع كثيرين إلى الاعتقاد أنّ شيئا ما تغيّر في طبيعة المواجهة وقواعد الاشتباك المعمول بها في ظل انتشار قوات "اليونيفيل" الأممية والجيش اللبناني في تلك المناطق منذ العام 2006 وصدور القرار الدولي 1701.
ويقول هؤلاء المتابعون أنّ الرّدود العسكرية على اقتحام المسجد الأقصى، قدّمت نموذجاً آخر من "توحيد الساحات" بانضمام بعض الفصائل الفلسطينية العاملة في لبنان، وكذلك القوى العاملة على جبهة الجولان السوري إلى ساحات الداخل الفلسطيني، وكل ذلك حصل أيضا بعد تكرار الهجمات الصاروخية والجوية الإسرائيلية على المواقع السورية والإيرانية ومواقع لحزب الله داخل الأراضي السورية التي نادراً ما كان يُردّ عليها.
ويشير المتابعون إلى أنّ قراراً بتوسيع رقعة المواجهة قد اتّخذ، وأنّ المنطقة الجنوبية سائرة في اتجاه فرض قواعد اشتباك جديدة، في ظلّ معلومات تفيد أنّ إسرائيل تستعدّ لعمل عسكري كبير بعد عيد الفطر، إمّا في اتجاه غزة وإما في اتجاه لبنان وسوريا، حيث أنّ نتنياهو يعتقد أنّ مثل هذا العمل من شأنه أن ينهي المأزق الداخلي الكبير الذي يهدّد مصيره من جهة، ويمكن أن يضمن له ما يطمح إليه من "ضمانات" جديدة تتعلّق بأمن إسرائيل على الجبهتين اللبنانية والسورية بعد الاتفاق السعودي الإيراني، فهذه الضمانات كانت تؤمّنها روسيا قبل الاتفاق، ولكن لم يعرف بعد ما إذا كانت هذه الضمانات ما تزال موجودة بعد انكشاف تورّط إسرائيل في الحرب الأوكرانية إلى جانب كييف.
رسائل
على أنّ هذا القصف الصاروخي من جنوب لبنان وبهذا الحجم الكبير هذه المرة احتوى، في رأي أوساط سياسية بارزة على رسائل كثيرة منها العسكري ومنها السياسي، فهي موجّهة مباشرة أو مداورة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الاميركية في زمن البحث في انجاز الاستحقاقات الدستورية اللبنانية، وفي ظلّ الانهيار الخطير الذي يعيشه لبنان ويهدّد بفوضى شاملة.
وثمّة من قال أنّ القصف الصّاروخي من الجنوب الذي لم تتبناه أي جهة بعد، أريد منه أن يكون بالدرجة الأولى، إلى جانب الرّدّ على اقتحام المسجد الأقصى، إفهام الولايات المتحدة الاميركية أنّ استمرار تدخّلها في شؤون لبنان، وتأخير تمكينه من استخراج ثروته النفطية والغازية من البلوك رقم 9 وغيره من البلوكات البحرية، وتشديد الحصار عليه لتحقيق تنازلات ما على مستوى استحقاقاته الدستورية وغيرها لن يجدي نفعاً، وأنّ الاستمرار في ذلك سيفرض قواعد اشتباك جديدة في المنطقة يمكن أن يصبح معها الاتفاق على ترسيم الحدود في خبر كان.
فالموقف الأميركي من الاستحقاق الرئاسي يتّسم بالرمادية، خلافاً لتسويق بعض المسؤولين الأميركيين من أن ليس لديهم مرشّح، وأنّهم لا يؤيدون أي مرشح، وأنهم سيتعاملون مع أي رئيس سينتخبه مجلس النواب اللبناني. ولكنهم في الكواليس يتصرفون عكس ذلك، ويحاولون تسويق الخيار الذي يريدون عبر تسريبات من هنا وهناك، وعبر المداولات السياسية الجارية في بعض العواصم المهتمّة بالشّأن اللبناني.
والملاحظ أنّ ما حصل جنوباً تزامن مع حملة مبرمجة ومركّزة على رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية العائد من زيارته الفرنسية، والذي أعلن "الثنائي الشيعي" وحلفاؤه دعمهم ترشيحه لرئاسة الجمهورية، في وقت لم ينته لقاء النواب المسيحيين في حريصا إلى اتفاق على إطار أو مرشح يلقى إجماعاً مسيحياً، بل أنّ ما رشح من هذا اللقاء اظهر أنّ هناك استحالة حتى الآن في التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق.
ولذلك فإن الجميع ينتظر "بركات" الاتفاق السعودي ـ الايراني الذي هو وحده ما سيدفع واشنطن إلى الخروج من موقفها الرمادي، بعدما تلقفت مضمون "الرسالة الصاروخية" وأثرها على مستقبل الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية، الذي لم يجنِ لبنان منّه حتّى الآن أي شيء، منتظراً وصول الحفارة وكأن لا وجود بديل لها في عالم الحفر و"الضرب على الحوافر"....