تقوم نظرية "مُنحنى فيليبس" على مفاضلة اقتصادية في الاقتصاد الكلي القصير الأجل. هذه المفاضلة التي حكمت وتحكم قرارات المصارف المركزية في الاقتصادات الحرّة تنصّ على التعايش مع ارتفاع طفيف في التضخم لضمان انخفاض البطالة، أو التعايش مع ارتفاع أكبر في البطالة لضمان استقرار الأسعار.

قدّم لبنان حالة نموذجية من خلال تدمير هذا المنحنى وتسطيحه ليحل محله ما هو أخطر بكثير، وهو "التضخم الركودي". فبعد أعوام من الأزمة فقد لبنان ركيزته النقدية وكل ثقة في مؤسساته وأصبح يُكافح ضد البطالة المرتفعة هيكلياً على المدى الطويل والتضخم المرتفع الذي وصل إلى ثلاثة أرقام.

التضخم الناتج عن الركود

في اقتصاد طبيعي لا يُعاني من أزمات، يؤدّي ارتفاع معدّل البطالة إلى مستوى أعلى من المعدل الطبيعي، إلى انخفاض فجوة الناتج، ما يُؤدي بدوره إلى خفض معدل التضخم. إلا أن الأزمة التي عصفت في لبنان قلبت هذا المنطق رأساً على عقب. فبعد الانهيار المالي عام 2019، أُغلق العديد من الشركات، وتفككت سلاسل التوريد وانسحب قسم كبير من رؤوس الأموال الأجنبية وارتفعت نسبة البطالة الرسمية بشكل كبير لتصل إلى أكثر من 30% (في بعض التقارير) مع تخطّي هذه النسبة 50% لدى الشباب. وبالتالي كان من المفروض أن يُؤدي الانكماش الاقتصادي التراكمي الذي بلغ حوالي 40% بين عامي 2019 و2024 إلى تراجع كبير في التضخّم نتيجة الانهيار الهائل في الطلب الكلّي.

لكن كما يُقال، "حسابات الحقل لم تطابق نتائج البيدر"، إذ بدلاً من التراجع، ارتفعت معدلات التضخم السنوية إلى مستويات هائلة بلغت 84.9% (2020)، و154.8% (2021)، ووصلت إلى 221.3% (2023) بحسب الأرقام الرسمية ودخل لبنان مرحلة التضخم المُفرط! هذا التضخّم أتى كنتيجة حتمية لتمويل مصرف لبنان العجز في موازنات الحكومات المُتعاقبة وانهيار الليرة أمام نقص الدولارات الأميركية في السوق والمضاربة الشرسة على الليرة اللبنانية التي شهدتها الأعوام 2019 حتى 2023. ويُمكن القول إن انهيار الليرة أتى بمثابة صدمة في العرض أدّت إلى توقعات تكيُّفِية لدى اللاعبين الاقتصاديين (أُسر وشركات). وإذا ما أردنا معرفة التداعيات على "مُنحنى فيليبس" (أنظر إلى الرسم البياني المرفق)، نرى أنه تشوّه بشكل كبير (انتقل إلى اليمين – زيادة البطالة، وإلى الأعلى – زيادة التضخّم) وذلك نتيجة توقّعات اللاعبين الاقتصاديين أن معدل التضخم القادم سيُساوي معدل اليوم السابق.

الضرر الهيكلي

يُعرّف معدّل البطالة الذي لا يُسهم في تسريع التضخّم (NAIRU) على أنه أدنى مستوى يمكن أن يصل إليه معدّل البطالة في الاقتصاد دون أن يؤدي إلى ارتفاع التضخّم. وعندما ينخفض معدل البطالة عن هذا الحد، يفوق الطلب على السلع والعمالة العرض، ما يدفع الأجور والأسعار للصعود في دورة تضخمية "ذاتية التغذية". وفي حالة لبنان، لم يكن الركود الاقتصادي مجرّد مصدر لبطالة دورية يُمكن تخفيف حدّتها من خلال تحفيز الطلب، بل أدّى إلى ضرر هيكلي على صعيد الاقتصاد ككل. فقد أدى وقف المشاريع المُجدية اقتصادياً، وهجرة الكفاءات، وتعثّر النظام المصرفي، إلى انخفاض دائم في القدرة الإجمالية للماكينة الاقتصادية على خلق فرص عمل قادرة على امتصاص اليد العاملة.

وسمحت دولرة الاقتصاد في العام 2023 بالسيطرة على التضخم، إلا أن معدل البطالة الذي يتوافق مع استقرار الأسعار أصبح أعلى بكثير من مستواه ما قبل الأزمة (الخط العامودي بالأحمر على الرسم البياني المُرفق)، واضعًا الاقتصاد في حالة توازن جديدة "غير مواتية"، إذ يتطلب التضخم المنخفض معدلات بطالة مرتفعة باستمرار مقارنةً بالوضع الاقتصادي ما قبل الأزمة.

مسار هش

مع بداية عام 2024، بدأت بوادر تراجع التضخّم تظهر بعدما استقر سعر الصرف نسبيّاً (نتيجة الدولرة)، عاكساً هبوطاً لافتاً من مستويات خيالية إلى نحو 33% في أيلول 2024، و15% في العام 2025 (استخدمنا هذه الأرقام في التحليل على الرغم من تحفظاتنا على تركيبة سلة قياس الأسعار التي لم تعد تعكس إنفاق المُستهلك). لكنّ هذا التحسّن لا يعني الخروج من الأزمة، بل الانتقال من مرحلة إلى أخرى أكثر تعقيداً! فاليوم هناك تحدّيان أساسيان يعصفان بشكل مُزمن بالاقتصاد اللبناني: الارتفاع الصاروخي بالبطالة مع عدم قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل، والتضخّم الضمّني الناتج عن الاحتكار مع هيمنة عدد قليل من الشركات على السوق وغياب المنافسة. بمعنى أخر لم يعد الاقتصاد اللبناني يعيش مرحلة "ركود تضخمي" فحسب، بل أصبح في منطقة "وَعِرَة" مع بطالة جامحة وتضخّم دائم متأصّل في بنية الاقتصاد! وهنا المأساة الكبيرة إذ إن المبدأ الاقتصادي "التقليدي" التي ينصّ على المفاضلة بين التضخّم والبطالة لم يعد قائمًا بحكم فقدان الاقتصاد اللبناني توازنه الهيكلي. والنتيجة؟ الشعب يدفع الثمن!

في المحصلة، يُظهر تطبيق "منحنى فيليبس" على حالة لبنان، أن هذه القاعدة الاقتصادية لم تعد أداةً للسياسة النقدية، بل أصبحت مؤشراً يعكس مصداقية السياسات الاقتصادية عامةّ والنقدية خصوصاً. ومع فقدان هذه المصداقية، جُرِّدَ الاقتصاد اللبناني من أي آلية فعالة لتحقيق التوازن بين التوظيف والأسعار والنتيجة سنوات كثيرة من "القمع الهيكلي والبؤس الاقتصادي".