قد يكون صحيحاً أن التطور الأخير في أزمة المنطقة، أي الهجوم الجوي الإسرائيلي على مركز "حركة حماس" في العاصمة القطرية الدوحة، زاد الأزمة الإقليمية تعقيداً وفتحها على مرحلة أشد صعوبة في الميدان وفي المساعي الدبلوماسية، وأن الأزمة اللبنانية ستتأثر سلباً أيضاً فيتعثّر مسار حلّها الذي انطلق عملياً منذ القرار البنيوي الذي اتخذه مجلس الوزراء في الخامس من آب الفائت لـ "حصر السلاح".

غير أن الصحيح أيضاً أن سياق حلّ الأزمة اللبنانية لم يعُد معقوداً بصورة مُحكَمة على سياقات الحلول أو التعقيدات في المنطقة، بل هناك دلائل واضحة إلى أن المعالجات في لبنان تسلك طريقها المتقدّم بشكل منفصل، ولو جزئياً، عمّا يحصل في الإقليم.

فكل ما جرى بعد مفصل 5 آب يؤكّد أن مرحلة اتخاذ القرارات ووضع الخطط قد انتهت وبدأت فعلياً مرحلة التنفيذ، بغضّ النظر عن المهل والجداول الزمنية، سواء قصُرت أو طالت، مع الإشارة إلى أن البرمجة الزمنية ليست مفتوحة على مدى مجهول بدليل وضع مهلة ثلاثة أشهر لحسم إنهاء السلاح غير الشرعي في منطقة جنوب الليطاني بكاملها، مع البدء الفوري بمنع حركة نقل الأسلحة واستخدامها في سائر المناطق اللبنانية.

والواضح أن البدء بتنفيذ "حصر السلاح" لا يعني الهرولة إلى دهم الترسانات والمخابئ والمخازن والمربّعات المدجّجة، بل بالتضييق عليها وتطويقها وتجفيف مصادرها وشل حركتها. فأي وظيفة تبقى لسلاح مطوّق لا سبيل إلى تعزيزه وتجديده وتطويره، سوى تحوّله مع الوقت إلى خردة أو إلى أفخاخ تفتك بأصحابها؟

وما يُثبت أن مرحلة التنفيذ بدأت فعلياً، ليس فقط الإجراء الميداني الذي نفّذه الجيش اللبناني ضد سلاح إحدى "السرايا" في معسكر الشويفات للحزب السوري القومي الاجتماعي وبضبط سكك التهريب ومصانع المخدّرات، بل بمواقف سياسية ثلاثة تلاقت بدون تنسيق مُسبق:

فرئيس الجمهورية جوزف عون أكّد بكلام حاسم "أن القطار انطلق وممنوع الوقوف في وجهه"، ورئيس الحكومة نوّاف سلام أصرّ على أن "حصرية السلاح مسار انطلق ولا عودة إلى الوراء"، بينما الموقف الجديد جاء من نائب رئيس البرلمان الإيراني حميد رضا بابائي في قوله بعد اجتماعه بالرئيس نبيه بري "إن إيران تؤيد وتبارك أي قرار يتخذه اللبنانيون" متجاوزاً الشرط الذي وضعه رئيسه لاريجاني خلال زيارته السابقة لبيروت عن ضرورة "تنسيق" القرار مع "المقاومة".

هذه المواقف الثلاثة تدحض عملياً مراوحة الأمين العام لـ "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم حول رفضه المتكرر تسليم السلاح ودعوته المسؤولين إلى "الخروج من قصة حصرية السلاح"، مُثبتاً بمراوحته هذه أنه بات هو نفسه خارج الوقائع والحقائق.

ولعلّ أبلغ ما صدر عن الدولة اللبنانية في هذا الموضوع هو رفض الرئيس سلام مسألة "الحوارات" حول "إستراتيجية الأمن الوطني"، ونفيه وجود ما يسمّونه "إستراتيجية دفاعية" التي يريدها "الحزب" غطاء لسلاحه ومسلّحيه، حاسماً البتّ بها في مجلس الوزراء وليس في أي إطار آخر تحت شعار "حوار" أو شراكة مع "المقاومة".

إضافة إلى هذه المعطيات حول انطلاق مسار التنفيذ، هناك دلائل لا تقل أهمية، بل هي فعلياً أكثر أهمية، ومنها استثناء واشنطن لبنان، وتحديداً الجيش اللبناني، من قرار وقف المساعدات الخارجية، وتقديمها مساعدة مالية جديدة له مع معدّات لوجستية، بعد المساعدة المالية القطرية السابقة.

ومن الدلائل أيضاً تفعيل لجنة "الميكانزم" والاهتمام الميداني للقيادة المركزية الأميركية centcom، وتوالي الموفدين إلى بيروت وأبرزهم الموفد الرئاسي الفرنسي جان-إيف لودريان والسعودي الأمير يزيد بن فرحان، وكل ذلك يصب في مجرى احتضان لبنان للخروج من أزمته أمنياً وسياسياً واقتصادياً.

باختصار، لقد دخل لبنان مدار حلّ أزماته، سواء تحلحلت ملفّات المنطقة أو تعقّدت، وما على المراوحين في الرهانات الحالمة، وبُناة "قصور الوهم" سوى الخروج من مرض الإنكار والتنكّر.