حين يحاول الوطن أن يجمع شتاته ويبني دولته على أسس صلبة لا يمكن أن تحلّ الشعارات محل الإنجاز.

حين يجهد الوطن لتجاوز خلافاته والاتفاق على أهداف مشتركة ترسم معالم المستقبل وأفقه، لا يمكن أن تقوم الإنشائيات مقام المشاريع والخطط.

وحين يسعى الوطن لإعادة صوغ هويته لا يمكن للأفكار المستوردة أن تكون قاعدة لبناء حياة جديدة.

في هذه الحقبة المصيرية التي يتحدث الجميع فيها عن "خطر وجودي" و"تغيير تاريخي" و"مرحلة جديدة" لا تشبه أياً من سابقاتها، يتسابق الجميع إلى طرح أفكار لا تقدّم ولا تؤخّر. هذا يريد "تنقية الذاكرة" وآخر يسعى وراء "إعادة توجيه البوصلة" وثالث يطرح موضوع "عقد وطني جديد"، فضلاً عن حزمة أخرى من الأفكار التي يعتقد طارحوها أنها ستكون مفيدة، لكن مقاربات سابقة نحوها أظهرت أنها ليست سوى امتداد لأسباب الخلاف.

لم يعد يفيد الجدل على سلاح "حزب الله" مثلاً حين تؤكّد السلطة التنفيذية أنها اتخذت قرارها في هذا الموضوع ورحّبت بخطة الجيش لتنفيذها، وحين يؤكّد رئيس الحكومة أنها لن تتراجع عن هذا القرار. لم يعد يفيد الجدل خصوصاً أن كل الحجج التي استُخدِمت سقطت وحاول أصحابها إحياؤها بتغيير الأهداف كلّما تغيَّرت الحجة.

إذا كان بسط سيادة الدولة على أراضيها وحصر السلاح في يد أجهزتها العسكرية والأمنية هما المفتاح للخطوات اللاحقة، فقد وضع المفتاح في القفل، وأضيف الشحم والزيت لتفتيت الصدأ الذي خلّفه الجمود الناتج من غياب الدولة.

لكنّ هذا الأمر سيأخذ وقته لأن الجيش وسائر الأجهزة الأمنية تحتاج إلى تعزيز عدّتها وعديدها وتحتاج إلى تحديد مراكز انتشارها وبناء شبكة اتصالاتها الميدانية كما تحتاج لوقت لاستيعاب السلاح.

لا الشعارات ولا السرديّات ولا الإنشائيات التي تصدرت الطروحات السياسية والاجتماعية لعقود، خطت خطوة واحدة على طريق بناء الدولة. لا الكلام عن دور "المكوّنات" أو "النضال" أو "خدمة القضية" ساعدت في التقدّم نحو تأمين الخدمات الأساسية التي يفترض في الدولة والذين يديرونها أن يقدّموه للمواطنين.

إذا كانت القضية المهمّة قضيّة الأرض، فالقضيّة الأهم هي الإنسان. ها نحن اليوم في بداية السنة الدراسية وقد ارتفعت الأقساط ارتفاعاً غير مبرّر وغير مقبول ولم تهز وزارة التربية ساكناً.

ها هي رائحة الفساد تفوح من مديرية الجمارك وما زال مجلس الوزراء يتفحّص الأسماء والوسائل للمعالجة.

هذا رئيس الجمهورية زار دائرة الميكانيك التي شهدت أكثر من محاولة لمعالجة الفساد والهدر فيها وتخفيف معاناة الناس ولم ينجح شيء بعد.

يعرف الجميع أحوال الطرقات والسير والتقصير الفاضح في تطبيق القانون، ولا يوجد شيء عملي بعد.

تعيش مدن وقرى بدون ماء أسابيع وأشهراً ولا يملك وزراء الطاقة سوى لوم من سبقهم، وكأن لا شرفاء إلا من يكون في المنصب ثم يتهم الوزراء من سبقهم بالفساد. يا سبحان الله كيف يتحول الأبيض أسود بين ليلة وضحاها.

هل حاول أحد في الفترة الأخيرة استصدار رخصة بناء؟ لو فعل لوجد الرخصة أغلى من كلفة العمار.

الأمثلة كثيرة ولن نزيد.

الشعارات والإنشائيات لا تبني طرقا، ولا تأتي بالكهرباء، ولا تستعيد الثقة في المؤسسات، ولا تضمن الأمن الصحي أو التعليمي. لبنان بحاجة إلى مبادرات تعكس مسؤولية وطنية حقيقية. تبدأ بإصلاحات جدية في القطاعات الأساسية: الكهرباء، المياه، الصحة، التعليم، البنية التحتية، والنظام القضائي.

الدولة التي تبنى على الإنجاز والمبادرة وحدها هي الدولة الحقيقية، التي تحتضن مواطنيها وتؤمن لهم حقوقهم، فتكون بذلك وطناً شامخاً بكرامته ومستقبله.