بعد 43 يوماً على إقفال الحكومة الاتحادية الأميركية وتوقفها عن الإنفاق، بما فيه دفع رواتب الموظفين الفدراليين، وقّع الرئيس دونالد ترامب قبل يومين قانوناً أقرّه الكونغرس بمجلسيه لإعادة تمويل الحكومة. ومع أن القانون يضمن تمويل بعض البرامج الفدرالية لسنتين، فهو جاء محدود زمنيّاً لأنه يسمح بالإنفاق الحكومي حتى آخر كانون الثاني 2026. هذا يعني أن على الكونغرس أن يُكِبّ على مناقشة الموضوع مرة أخرى قبل هذا الموعد وأن يتخلى عن التمويل الحكومي الجزئي والمؤقت وتأجيل الحلول الجذرية، ويسعى إلى إصدار موازنة كاملة.
الإحاطة بالتداعيات الكاملة لهذا الإغلاق الحكومي، وهو الأطول، تحتاج إلى وقت. لكنّ الظاهر منها إلى الآن عميق. فالإغلاق يقدّم دراسة حالة صارخة للتكاليف المتصاعدة للمناورة السياسية المحفوفة بالمخاطر والمتمثلة بممارسة سياسة حافة الهاوية، ويكشف عن انقسامات عميقة بين الجمهوريين والديمقراطيين وداخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ويختبر مرونة الاقتصاد الأميركي، ويهدر ثقة الجمهور في المؤسسات المصممة أصلاً لضمان الاستقرار.
لفهم هذا الحدث، يجب تحليل هذا الخليط السام من التصلًّب الأيديولوجي، والسياسات الإجرائية، والحسابات القصيرة المدى التي تبدّي المصلحة الحزبية على ما سواها، وتوقع المحاسبة السياسية والاقتصادية الحتمية التي ستليه.
أسباب الإغلاق
كان السببُ المباشر فشلَ الكونغرس في إقرار اعتمادات السنة المالية 2026 التي بدأت في الأول من تشرين الأول. محور الخلاف كان تجديدَ إعانات التأمين الصحي المنتهية بموجب قانون الرعاية الصحية الميسرة التي أقِرّت زمن رئاسة باراك أوباما. فقد أصرّ الديمقراطيون على حمايتها، فيما رفض الجمهوريون تجديدها واعتبروها تبذيراً. وازداد التوتر بعدما أجّلت إدارة ترامب صرفَ أموال وافق عليها الكونغرس، مستغلة سلطة الرئيس في حجز الاعتمادات الموافق عليها وحجبها عن برامج حكومية محدّدة، فيما زاد الديمقراطيون محاولاتهم لتقييد هذه السلطة التنفيذية. وهذا ما ساهم في تعثّر المفاوضات بين الحزبين.
وفي هذا الإطار نشأ خلاف على تخفيضات بقيمة تسعة مليارات دولار كانت مُقَرَّةً للدبلوماسية والمساعدات الخارجية وتمويل الإعلام، كان الديمقراطيون متمسكين بها. وأصبحت برامج الدعم الاجتماعي مثل المساعدات الغذائية لمحدودي الدخل والمساعدات للنساء والأطفال والمساعدات الإسكانية ورواتب العسكريين أوراق ضغط عمّقت الانقسام الحزبي.
استمرار التأجيل
بعد أكثر من ستة أسابيع من الجمود وتصاعد الضغوط الشعبية وتأخر الرواتب وتزايد الخسائر الاقتصادية، اضطر الكونغرس إلى التوصل لحل وسط. وافق مجلس الشيوخ على مشروع قانون مؤقت بدعم جمهوري ساحق وبمشاركة عدد قليل من الديمقراطيين. موّل القرار الحكومة لبقية السنة المالية واستعاد جزءٌ منها إعاناتِ التأمين الصحي المختلف عليها، فيما أُجِّلت النقاشات الأعمق لبداية العام المقبل.
وقّع الرئيس ترامب القانون ليعيد فتح الهيئات الفدرالية وينهي أزمة الرواتب لملايين الموظفين. غير أن التسوية أبقت بعض القضايا معلَّقة، بخاصة التمويل الطويل الأجل للتأمين الصحي وصلاحيات الإدارة التنفيذية في الموازنة، وهو ما يُنذر بمعارك جديدة العام المقبل.
التداعيات السياسية
يصل تأثير إغلاق الحكومة إلى ما هو أبعد من أروقة الكونغرس، ليلمس كل جانب من جوانب الحياة الأميركية.
ففي السياسة ستؤثر تداعيات الإغلاق على انتخابات منتصف الولاية في 2026. يفاخر الجمهوريون بضبط العجز المالي، لكنهم يواجهون انتقادات لتعريضهم الرواتب الحكومية والخدمات الحيوية للخطر. حاول ترامب إبراز نفسه منضبطاً مالياً، لكنه اضطر للموافقة على بعض مطالب التأمين الصحي. وهذا يعزّز قاعدته المحافظة لكنه قد ينفّر المعتدلين وذوي الدخل المحدود.
ركّز الديمقراطيون على الجانب الإنساني كفقدان المكاسب والتقديمات الاجتماعية وتأخر الخدمات وارتفاع المعاناة المعيشية، وألقوا اللوم على رفض الإدارة التوصل لحل. لكن تمسكهم المطوَّل بتجديد الإعانات عرَّضهم لاتّهامات بعرقلة العمليات الحكومية لتحقيق مكاسب حزبية.
ومن أكثر السياسيين عرضة لدفع الثمن السياسي:
الجمهوريون المعتدلون في الدوائر المتأرجحة، الذين يواجهون غضب الموظفين الحكوميين والعاملين في البرامج الفدرالية.
الديمقراطيون المتشددون الذين رفضوا التسوية، وأصبحوا عرضة لانتقادات التجميد.
قادة الكونغرس من الحزبين، الذين أخفقوا في إظهار صفاتهم وقدراتهم القيادية وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الحزبية.
كشف الإغلاق عن ضعف مؤسساتي متزايد وأمعن في كشف تآكل ثقة المواطنين بقدرة وصدق حكومتهم وحكّامهم في واشنطن، ما يجعل مفاوضات الميزانية المقبلة محفوفة بالمخاطر.
التداعيات الاقتصادية والمالية
قدّر مكتب الموازنة في الكونغرس أن الناتج المحلي الإجمالي انخفض بمقدار 18 مليار دولار في الفصل الرابع من 2025 بسبب الإغلاق. أدى وقف دفع الرواتب ووقف المنح إلى اختلال موازنات الحكومات المحلية وتعطيل مشاريع البنية التحتية وتسريح العاملين في قطاعات تعتمد على العقود الفدرالية. وقد شملت الآثار الاقتصادية الرئيسية:
رواتب غير مدفوعة لقرابة أربعة ملايين ونصف مليون موظف حكومي وعسكري، كانت لتصل إلى 21 مليار دولار لو طال الإغلاق أكثر.
تعليق الإعانات الغذائية لمحدودي الدخل والفقراء والنساء والأطفال. والعجيب أن 42 مليون مواطن، أي ما يقارب ثُمن الشعب في أغنى دولة في العالم، يعتمد على هذه المساعدات.
تأخر برامج دعم الطاقة مع اقتراب الشتاء، ما زاد معاناة الفقراء.
خسارة منح تنمية المجتمعات.
إلغاء أو تأخر آلاف الرحلات الجوية بسبب ضعف خدمات الملاحة الفدرالية.
وقد امتدّت تداعيات الإغلاق إلى الأسواق المالية التي بدأت بالتقلُّب. انخفض مؤشر S&P 500 بنسبة 4% في تشرين الأول لكنه استعاد معظم الخسائر بعد انتهاء الأزمة. كما ارتفعت عائدات السندات قليلاً بسبب المخاوف من استمرار الارتباك المالي.
العواقب الاجتماعية
خلق أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة معاناة واسعة. لجأ الموظفون الحكوميون للاقتراض لتغطية نفقاتهم اليومية، فيما قدّمت الاتحادات الائتمانية قروضاً بدون فوائد لإنقاذهم. أدت الاضطرابات في برامج الإعاقة، والإسكان، والدعم الغذائي إلى ضرب الفئات الأكثر هشاشة، وانتشرت مطالبات بالمعونة الخيرية ومبادرات الحكومات المحلية.
واجهت برامج الوجبات المدرسية، ودعم النقل، وبطاقات التأمين الصحي جميعها تأخيرات ملموسة. شارك سكان المناطق المتضررة في احتجاجات ورفعوا العرائض ووجهوا رسائل للكونغرس للمطالبة بإنهاء الأزمة.
هذا الانقسام إلى أين؟
تشكّل أزمة الإغلاق الحكومي في أواخر 2025 سابقة جديدة في صراع الموازنة والحرب الحزبية. الحل الذي تحقق هشّ وغير مكتمل، وبالتالي من المرجّح أن تتكرر الأزمات ما لم تتغير الحوافز الانتخابية لدعم التسويات. تبقى أسئلة رئيسية حول التأمين الصحي وصلاحيات الموازنة والإنفاق الاجتماعي بدون جواب، ما يضمن أن دروس خريف 2025 ستظل حاضرة في واشنطن وما بعدها.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
