يروي العديد من المسؤولين الإسرائيليين السابقين، خصوصاً الذين شاركوا في مفاوضات أدّت إلى اتفاقات مع مصر ومنظمة التحرير والأردن، أنهم قالوا للذين فاوضهم من العرب إن قبولهم بالمعروض عليهم، على مُرّه أو إجحافه، أفضل مما سيُعرَض عليهم لاحقاً. وتبيّن أنهم كانوا على حق لأن العرب، مسؤولين وغير مسؤولين، تراجعوا من سعيهم إلى رمي إسرائيل في البحر برفضهم قرار تقسيم فلسطين وإعلان إنشاء إسرائيل، إلى المطالبة بفتات ما بقي من أرض مشلّعة في الضفة العربية وأرض مهدّمة في غزة ستكون تحت وصاية دولية وفق الخطة التي عرضها الرئيس دونالد ترامب.
وما يصح على فلسطين يصح أيضاً على لبنان. لبنان متمسك بالهدنة المعقودة عام 1949 مع إسرائيل ولا يرضى تخطّيها. حتى 1969 كانت الحدود اللبنانية الإسرائيلية هادئة، لكن الوضع تفلّت مع إباحة العمل الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل من جنوب لبنان، وكأن القرار الخارجي قضى حينذاك بأن يدفع لبنان ثمن عدم دخوله الحرب العسكرية التي هزمت فيها إسرائيل الجيوش العربية في خمسة أيام.
منذ ذلك الوقت اجتاحت إسرائيل لبنان عدة مرات واحتلت بضعاً من أرضه غير مرة. وكل مرة كان يُعرض على لبنان تخطّي إطار الهدنة إلى ما هو أثبت، لكنّ لبنان استمرّ على رفضه، وكل مرّة بحجة مختلفة.
الفرصة البارزة لاحت عام 1982 حين اجتاحت إسرائيل لبنان ووصل جيشها إلى بيروت. توصّل البلدان برعاية أميركية إلى "اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية عن لبنان" المعروف باسم اتفاق 17 أيار، الذي لم يُطبَّق وألغي لاحقاً، من دون أن ينصفه أحد، مع أنه كان أفضل من المعروض الآن وممّا سيكون مطروحاً على الطاولة لاحقاً.
عدم توقيع اتفاق 17 أيار كان خطأ قاتلاً في حق لبنان. وستكشف الأيام لاحقاً من ارتكب هذا الخطأ ولماذا. واتفاق وقف الأعمال العدائية الذي لم ينفَّذ بعد، ويصرّ لبنان على أن إسرائيل لم تحترمه، يبقى أفضل ممّا قد يُعرَض لاحقاً إذا استمر هذا التردد اللبناني في تنفيذ الشروط المسبقة المتعلقة بتفكيك بنية "حزب الله" العسكرية والأمنية وحصر السلاح في المؤسسات الرسمية، والتي يؤدي تنفيذها إلى التزام إسرائيل بالاتفاق.
أما وقد وصلنا إلى هنا، بعد عشرة أشهر على انتخاب رئيس للجمهورية وتسعة أشهر على ولادة الحكومة يتبيّن أن ما حققته الدولة هو أقل بكثير مما انتظره المواطنون إثر خطاب القسَم والبيان الوزاري. وهو يبعد بكثير عمّا يحتاج لبنان من مبادرات إنقاذية ومن خطوات تؤدي إلى بناء دوره ومستقبله في مرحلة التنافس على الأدوار.
قد يكون مفيداً تزخيم موقف رئيس الجمهورية اعتمادَ التفاوض مع إسرائيل وتحويله إلى واقع. الأفضل أن يكون التفاوض مباشراً. ولا يهم إن كان غير مباشر. المهم أن يكون برعاية أميركية أو دولية وعلى مستوى سياسي مسؤول، فيكون العسكريون خبراء تقنيين إلى جانب المفاوضين السياسيين.
آن زمن العقلانية في السياسة. فزمن الرومانسية السياسية انتهى. وزمن البطولات الوهمية قد أفل. وزمن الانتحار ترك البلاد خراباً.
آن زمن العقلانية وتحقيق المصلحة الوطنية. زمن القومية العربية ولّى. زمن الأمّة العربية الخالدة انتهى. وهذه هي الدول العربية تهل منفردة لخدمة مصالحها. فلماذا لا نبادر نحن؟
التفاوض المباشر مع العدو هو الذي يؤدي إلى ضمان الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار للبنان. وهو الذي يصون حقوق لبنان وشعبه.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
