مطمئنٌ يبدو الحاكم كريم سعيد، رغم حجم الأهوال. يخرج من اجتماع، ليدخل آخر، في الطابق السادس من مصرف لبنان، وهمّه إعادة "المركزي" إلى حجمه الطبيعي بعدما "تورّم" لعقود بـ"سرطان" التدخلات السياسية. عدم امتلاك الحاكم أي طموح سياسي، أراحه من محاولات إرضاء فلان أو علتان من شخصيات القطاع العام، وساعده على ذلك وجود حكومة هي الأفضل برأيه، منذ انتهاء الحرب الاهلية، وتجانس قل نظيره بين مختلف المعنيين بالملفين المالي والنقدي.

العمل لصالح البلد وقطاعه البنكي فقط، وفقا لأصول العمل المصرفي العالمي ومعايير البنوك المركزية، بقطع الطريق أمام أي منصب نيابي أو حتى رئاسي… هذا ما يدركه الحاكم جيداً، ولمح إليه بأكثر من طريقة في لقاء خاص مع "جمعية الإعلاميين الاقتصاديين". إلا أن هذا "التواضع" المهني، لا يعني أبداً أن الحاكم ليس سياسياً؛ وقد يكون هذا الآتي من عالم المال والقانون والأعمال سياسياً مخضرماً. فالمقدمة الطويلة التي برر فيها الوصول إلى الإنهيار، وانتقائه للكلمات "الرمادية"، وتفادي الحديث عن المعرقلين الحقيقيين لإنجاز قانون الفجوة المالية، الذي يمثل غيابه العائق الأكبر أمام التعافي، كلها مؤشرات تشي بذلك.

سبب الانهيار

ما أوصلنا إلى الانهيار، برأي الحاكم، هو "عدم أخذ استقلالية مصرف لبنان على محمل الجد". فالتناقض بين روزنامة الطبقة السياسية قصيرة المدى، وسياسات المركزي طويلة المدى، أدى إلى تجاوز المادة 91 من قانون النقد والتسليف، التي تضع شروطاً حازمة على إقراض الدولة. فتوسعت الاخيرة، واستسهلت الاستدانة من مصرف لبنان الذي أمن طلباتها من القطاع الخاص. فأصبح هناك تضارب مصالح مع المصارف، وضعف في الرقابة عليها، وذلك من دون أن تكون الأطراف الثلاثة المعنية بالانهيار، أي الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، قد تعاملت بسوء نية، كما يشدد الحاكم، إنما نتيجة للظروف.

الحلول المقترحة

إزاء هذا الواقع انطلق مصرف لبنان في ورشة عمل على مستويين متوازيين:

خُصّص المستوى الأول لاتخاذ الإجراءات الاحترازية، فولد التعميم 169، الذي ألزم المصارف، بعد تسديد أي مبالغ نقدية من خارج التعميمين 158 و166. وعلى الرغم من أن هذا التعميم هو بمثابة "كابيتال كونترول" غير قانوني، فقد جعل المحاكم في الخارج تفكر مرتين قبل الحكم لصالح المودعين المتمولين للحصول على ودائعهم من المصارف اللبنانية، وحمى برأي الحاكم صغار المودعين. كما وُلد التعميم 170 الذي يحظر التعامل مع المؤسسات المالية غير المرخصة، تجنباً لمخاطر تبييض الأموال، وقطع المصارف المراسلة الثلاثة علاقتها معنا، وهي: جي بي مورغان، سيتي بنك، وبنك أوف اميركيا، وعزل لبنان مالياً عن العالم.

أما المستوى الثاني وهو الأدق فمخصص لخطة التعافي، أو قانون الفجوة المالية. وللتبسيط، وظّفت المصارف التجارية في مصرف لبنان نحو 83 مليار دولار، وهي تمثل المطلوبات. ويملك مصرف لبنان بين احتياطيات وذهب وأصول مختلفة بين 45 و50 ملياراً. وعليه، فإن المطلوب إعادة التوازن بي المطلوبات والموجودات، لتحويل المشكلة من أزمة ملاءة إلى أزمة سيولة، من السهل حلها مع مرور الوقت. ولهذه الغاية سيعمد المركزي في الخطة، بحسب الحاكم، إلى التدقيق في الودائع ذات الامتثال الضعيف، ومراجعة الفوائد، والتدقيق بالمبالغ التي حولت من الليرة إلى الدولار عشية الانهيار. وهذا التعبير السياسي للحاكم، يمكن أن نترجمه تقنياً إلى شطب الأموال المشكوك فيها، والفوائد عن المبالغ، والأموال المحولة من الليرة إلى الدولار.

قصة دين 16.5 مليار

يضاف إلى الموجودات في مصرف لبنان، الدين الإشكالي على الدولة بقيمة 16.5 مليار. وعلى الرغم من اعتبار وزير المالية في أكثر من حديث إن هذا الدين غير مشروع وهو قد يمثل قرض من دون قانون، شدد الحاكم على أن منشأ هذا الدين هو سلفات من حساب اليوروبوندز المفتوح من قبل وزارة المالية في مصرف لبنان منذ العام 2004. فقد دخل على هذا الحساب 62 مليار دولار، وخرج منه 79 مليار دولار. وبرأي الحاكم أن هذا المبلغ سيمثل كل ما ستدفعه الدولة من فاتورة الانهيار.

المركزي يتحمل المسؤولية

يُفهم من حديث الحاكم كريم سعيد أن مصرف لبنان سيأخذ الانهيار بصدره. فالديون هي من "مسؤولية المركزي وواجبه"، يقول الحاكم؛ ليس تجاه المودعين فحسب، إنما القطاع المصرفي أيضاً، ذلك أن للبنوك دور أساسي في النمو والازدهار في اقتصادياتنا الحديثة. والمشكلة فيما طرح من معالجات سابقة لتوزيع الخسائر، أن معدّيها تجاهلوا، أو "لم يطلعوا على المادة 13 من قانون النقد والتسليف"، يضيف الحاكم. وتنص المادة 13 على أن "مصرف لبنان هو شخص معنوي من القانون العام، ويتمتع بالاستقلال المالي. وهو يعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وينظم حساباته وفقا للقواعد التجارية والمصرفية وللاعراف التجارية والمصرفية". ما يعني برأي الحاكم أن "علاقة مصرف لبنان مع المصارف هي علاقة تجارية، وليست علاقة سيادية". وانطلاقاً من ذلك لا يحق للمركزي شطب ديون المصارف لديه لأن هذا هو الحل الأسهل والأسرع للتخلص من عبء الماضي، و"البدء على نضيف"، على حد تعبير الحاكم. وأي حل مع المصارف سيكون من خلال التفاوض. مع التأكيد على أن تحمل المركزي مسؤوليته تجاه الديون، لا يعفي المصارف من إعادة الرسملة، وتسديد الجزء الأصغر من أموال المودعين.

ما طرحه الحاكم حول تحمّل "المركزي" الجزء الأكبر من الخسائر، تليه الدولة، ثم المصارف، بعد إعادة هيكلة الأخيرة وتحويل الأزمة إلى مشكلة سيولة، يُشكّل مدخلًا للحل.

لكن لماذا التأخّر في اعتماده؟

في الواقع، هناك أكثر من إشكالية تطبيقية، إذ يُصرّ صندوق النقد الدولي على تراتبية المسؤوليات والخسائر ابتداءً من القطاع المصرفي، وليس من مصرف لبنان أو الدولة.

وهذا الإجراء يتطلّب شطب رساميل المصارف أولاً، وخروج أي مصرف يعجز عن إعادة الرسملة. وصحيحٌ أن هذا الحل سيؤدي إلى شطب قسم أكبر من الودائع، إلّا أنه يضمن الاستقرار على المدى الطويل ويُجنّب البلد الخضّات المتكرّرة.

هذا من جهة، أمّا من الجهة الثانية فإن تحميل الدولة دينًا بقيمة 16.5 مليار دولار سيكون مُرهقا، ويجعل نسبة الدين إلى الناتج كبيرة وفوق قدرتها على التحمل، ولا سيّما أن هذا الدين سيُضاف إلى ديون أخرى للبنك الدولي، وقروض إعادة الإعمار، وقرض النفط العراقي، وغيرها من الالتزامات الكثيرة على الدولة، من دون أن ننسى دورها في تأمين الحماية الاجتماعية ومكافحة الفقر والبطالة.

أمّا على صعيد المصارف الخاصة، فهذا الحلّ "الحُلم" بالنسبة لها لا "يُقرّش"، فالجزء الأكبر من موجودات "المركزي" هو بند الذهب، الذي من الصعب تسييله. والكثير من المصارف التي لن تتلقَّ أموالها سريعًا من "المركزي" ستُضطر إلى الخروج من السوق نتيجة عجزها عن الرسملة، فيما ستبقى البنوك الكبيرة التي باعت فروعًا في الخارج أو تلك غير المكشوفة بكثرة على الديون السيادية. وهذا ما لا ترغب به المصارف، إذ من مصلحتها البقاء كـ"زومبي"، بانتظار أن تذوب الودائع إلى ما لا نهاية.

أكثر من 5 سنوات ومازال لبنان يدور في الحلقة المفرغة نفسها، والآمال بكسرها مع العهد الجديد تضيق كلما اقتربنا من الاستحقاق النيابي، حيث يسيطر الخطاب الشعبوي على الحلول العلمية والمنطقية.