ضجّ الفضاء الأكاديمي، قبل فترة قصيرة، بعملية تزوير وتلاعب بالعلامات والمسابقات، في إحدى أعرق كليات الجامعة اللبنانية. وأظهرت التحريات التي أجرتها مديرية "أمن الدولة"، وجود عمليات تعديل على العلامات سواء على المسابقات مباشرة، أو عبر نظام إدخال العلامات الإلكتروني المعروف بـ Banaire. لغاية الآن، تبدو الفضيحة مرتبطة بصغار النفوس، ممن يبيعون ضمائرهم مقابل حفنة من الدولارات، وهي من اختصاص القضاء. إلا أن توسيع "بيكار" البحث عن أسباب المشكلة، يُظهِر عاملاً اقتصادياً فائق الأهمية، يُعدّ من جذور الفساد في الجامعة اللبنانية وبقية المرافق العامة.
تستعين "الجامعة اللبنانية" بمنصة إلكترونية متطورة، تسمى " قاعدة بيانات الإدارة والتعليم والبحث" (Banaire)، لإدارة المعلومات الأكاديمية والإدارية الخاصة بالطلاب والأساتذة. تستخدم المنصة في العديد من الوظائف الإدارية، ومنها: مساعدة الأساتذة والإدارة على إدخال العلامات، وتنظيم الشُعَب، ومتابعة الحضور. وُشغّل المنصة "مدرَّبون"؛ وهنا بيت القصيد. فهذه الفئة من "المتعاقدين" منذ عقود، تعتبر من الأكثر هشاشة في الجامعة اللبنانية، وعدا عن إدخال جزء كبير منهم بالمحسوبية السياسية، فإنهم لا ينالون رواتب عادلة ولا حقوقاً وظيفية، ويخضعون لضغوط عمداء الكليات ومديريها، الذين يرغّبونهم ويهدّدونهم بالحوافز التي تحوّلت إلى سيفٍ مسلطٍ على رقابهم، في حال عدم الاطاعة.
الضغط على المدربين
الضغوط التي يتعرض لها المدرّبون، لم تعد محصورة في فرع محدّد، بل تحولت إلى ظاهرة عابرة لفروع الجامعة اللبنانية في كل المناطق. ففي إحدى كليات العلوم الإنسانية في الشمال مثلا، جرى استبدال المدرب المسؤول عن نظام Banaire، لأنه رفض الرضوخ لتدخلات مسؤوليه بتعديل علامات على المنصة، بموظف آخر أكثر "مرونة". وفي كلية أخرى جنوباً، مارس مدير الفرع ضغطا على أحد المدربين لتغيير أكثر من أربعين نتيجة على المنصة. ويتناقل المدربون أخباراً لا تعد ولا تحصى عما يتعرضون له من مضايقات وإملاءات من قبل مسؤولين وموظفين نافذين بهدف تسهيل التدخل على النظام الإلكتروني.
على الرغم من عدم وجود إحصاءٍ دقيقٍ لأعداد المدرّبين الذين أُدخلوا إلى الجامعة بعقود مصالحة، فإنّ أقلّ التقديرات تشير إلى وجود ما بين 1500 و2000 مدرّب. يقوم جزءٌ منهم بتسجيل الطلاب، وإصدار النتائج، والإشراف على المختبرات، وصيانة أجهزة الكمبيوتر وأنظمة المعلوماتية. أمّا الجزء الآخر، فيعاون الأساتذة في المختبرات، ويشرف على مقرّرات الأعمال المخبرية، ويرافق الطلاب في دوراتهم التدريبية. غير أنّ هذا الدور الكبير الذي يؤدّيه المدرّبون لا يحميهم، إذ لطالما كانوا معرّضين لفسخ التعاقد معهم بـ "جرّة قلم". وقد جاءت الأزمة الاقتصادية، وما رافقها من بدعتَي "الحوافز" و"الإنتاجية" اللتين أُضيفتا إلى الرواتب المنهارة لتحسين القدرة الشرائية، لتزيد من معاناتهم وتُكرّس تحكّم المدراء بهم. فمن يكون من المدرّبين مطيعاً ومرضيّاً عنه، ينل الحوافز وبدل الإنتاجية كاملَين، حتى لو لم يحضر سوى يوم واحد إلى الكلية، أمّا من يُغضب أحدَ المسؤولين، فيُحرَم من الإنتاجية من دون أن تكون له القدرة على الاعتراض، مهما كانت ظروفه.
الظروف الاقتصادية الصعبة
وبدلاً من إلغاء حالة التعاقد الشاذّة في الجامعة اللبنانية، تحت مسمّى "مدرّبي المصالحة"، جرى قبل فترةٍ قصيرة التعاقدُ مع أشخاصٍ جدد، وذلك خلافًا لقرار مجلس الوزراء القاضي بوقف جميع أشكال التعاقد. وتفيد مصادر مطّلعة بأن وزارة التربية بصدد توقيع العقود معهم قريباً. وتشير المعطيات إلى أنّ بعض المدرّبين المنضوين في المكاتب التربوية للأحزاب لا يداومون فعلياً، فيما هناك مدرّبون آخرون لا تتجاوز عقودهم 200 ساعة عمل سنوياً، رغم أنّ النظام يفرض على المدرّب الدوام أربعة أيام في الأسبوع، وبمعدّلٍ لا يقلّ عن 700 ساعة سنويًا. ويتقاضى المدرّب، في الحدّ الأقصى، راتباً مع بدل إنتاجية لا يتجاوز 700 دولار شهرياً، أمّا بدل الإنتاجية الجامعي، فيوازي ما يتقاضاه الأستاذ في التعليم الثانوي، أي نحو 375 دولاراً مقسّمة على 16 يوم عمل، أي ما يقارب 23 دولاراً عن كل يوم حضور فعلي. وعلى الرغم من أنّ المدرّب يُفترض أن يداوم بنسبة 60% من الأيام (أي نحو 10 أيام شهريًا)، فإنّ العديد من المديرين يرفضون احتساب بدل الإنتاجية كاملاً إذا لم يحضر المدرّب 16 يوماً، بغضّ النظر عن الأسباب التي دفعته إلى التغيّب. ويتحكم المديرين ببدل الانتاجية بشكل استنسابيّ بالكامل، وهي تخضع لاعتبارات الواسطة والمحسوبيات.
حلول إعادة الانتظام مؤجلة
إن إعادة الانتظام على المستويين الإداري والأكاديمي في الجامعة اللبنانية تتطلب أولاً إعادة هيكلتها وتحديد حاجاتها الفعلية والدقيقة من الكادرين التعليمي والإداري.
وثانيا إنهاء حالة التعاقد بمختلف مسمّياتها، من الأجراء والمدرّبين الذين جرى التعاقد معهم بعقود صادرة عن مجلس الوزراء في مطلع التسعينيات، وصولاً إلى ما يُعرف بـ "مدرّبي المصالحة"، موضوع مقالنا.
وثالثاً، تحسين الأجور ومنح الموظّفين الضمانات والتأمينات الوظيفية.
ورابعاً، وقف كل أشكال التدخّل السياسي في شؤون الجامعة، ووضع حدٍّ لهيمنة الجهات الحزبية النافذة على الكليات والفروع في المحافظات والمناطق.
غير أنّ هذه الإجراءات البديهية، التي لا يمكن اعتبارها "اختراعاً للبارود"، تبدو حتى الآن أضغاثَ أحلام. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، فإن القرار القاضي بتثبيت المدرّبين عبر مباراة محصورة لتعيينهم كموظّفين أصيلين قد اتخذ فعلًا، لكن غياب التوازن الطائفي حال دون تنفيذه، ما جعل العملية مؤجّلة منذ سنوات طويلة، وربّما لن تنفذ أصلا. أمّا إعادة الهيكلة ووقف التدخّلات السياسية، فمن المستحيل تحقيقهما من دون إصلاحٍ شاملٍ لبنية الدولة الإدارية والقطاع العام. وهذه الملفات أيضا تبدو بعيدة المنال، رغم كل المطالبات المحلية والدولية بإصلاحها.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
