كشفت التبدلات العميقة والسريعة في أسعار الذهب النقاب عن مشهدين لافتين في سلوك المستهلك اللبناني: يتمثل الأول بالتعطش "المتهور" للفرص الاستثمارية، ويتلخص الثاني باستحالة التوصل إلى قاسم مشترك على صعيد القضايا الوطنية الكبرى. وبقدر ما يكون هذا السلوك مؤذٍ للاقتصادين العائلي والعام، بقدر ما يفتح باب النقاش جدياً حول أهمية التسريع في إنجاز الإصلاحات لتوظيف المدخرات في الإنتاج، بدلاً من تجميدها بأشكال مختلفة.
عمد الكثير من اللبنانيين خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى نبش ما "صمّدوه" من دولارات "من تحت البلاطة"، لشراء الذهب. المفاجأة لم تكن بأن الذهب على شكل ليرات، أو اونصات، أو سبائك، غير متوفر في أصله الفيزيائي الملموس، عند اكبر التجار فحسب، إنما لدى الأشخاص الذين اصطفوا بصفوف طويلة لشراء المعدن النفيس، وتقول سيدة أربعينية فضلت عدم الكشف عن اسمها مازحة، ذهبت "معرّمة" وبحوزتي 4000 دولار، لشراء أونصة (تزن الأونصة نحو 31.1035 غراماً)، فاذا بي أذهل من إخراج الكثر مئات آلاف الدولارات لشراء الذهب بالكيلوات. وبعد انتظارطويل تخلله النقاش المستفيض بين المصطفين عن أهمية شراء الذهب والتوقعات بارتفاع سعره المرفقة بالتحليلات الجيوسياسية والسياسات "الترمبية"، حُجزت الأونصة لما بعد 80 يوماً وبعمولة وصلت إلى 100 دولار.
دلائل تعامل اللبنانيين مع التطورات الاقتصادية
هذه القصة الطريفة، على غرابتها، تحمل معان اقتصادية لا تعد ولا تحصى.
الدلالة الاولى: امتلاك اللبنانيين مبالغ مالية هائلة بالعملة الاجنبية. وقد سبق أن قدّر الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة - وحدة الإخبار المالي اللبنانية - عبد الحفيظ منصور، ما يحمله اللبنانيون من نقد بين 5 و6 مليارات دولار، في أحد مؤتمرات اتحاد المصارف العربية في صيف 2024. والمشكلة لا تنحصر في وجود هذه المبالغ خارج القطاع المصرفي فقط، إنما بخسارتها نسب كبيرة من قيمتها خلال السنوات الماضية نتيجة التضخم وتراجع قيمة الدولار أمام بقية العملات، ولاسيما أن الجزء الأكبر منها يعود إلى نهاية العام 2019 ومنتصف العام 2020، حين عمد المودعون إلى سحب ما امكنهم من مدخراتهم بالعملة الصعبة، قبل اتخاذ القرار بتذويبها بالليرة.
الدلالة الثانية الأكثر إيلاماً: أن هذه المدخرات لم تلاقِ فرصة جدية للاستثمار داخلياً بعد انهيار القطاع المصرفي. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى ضعف الأسواق المالية، والمحاولات المستمرة في تفتيت "هيئة الأسواق المالية"، وصولاً إلى المطالبة باقفالها. وكان من الممكن توظيف هذه المدخرات في أسهم الشركات الإنتاجية والخدماتية، لو كانت هناك نية جدية وتشجيع بتحويلها إلى شركات مساهمة، ولكانت قد حققت عوائد لأصحابها وساعدت على تطوير وتوسيع المؤسسات، التي هي بأمس الحاجة للتمويل، وبالتالي ساهمت في خلق الكثير من فرص العمل وتنشيط الاقتصاد.
الدلالة الثالثة: أن اللبناني لم يتعود على فكرة توظيف أمواله في الاستثمارات أو الأسواق الدولية أو المنتجات المالية. فالفوائد الخيالية التي كانت تدفعها المصارف عودته على الخمول، ولم تحفزه على البحث عن فرص بديلة.
الدلالة الرابعة: عدم الخبرة في قطف الفرصة في أولها، وانتظار وقت طويل قبل المبادرة، وذلك سواء تعلق الأمر بالذهب أو الفضة أو العملات الرقمية، أو غيرها من المنتجات المالية العديدة. فترتفع الأسعار بشكل كبير، كما ترتفع العمولات أيضاً، وهذا ما شاهدناه بأم العين، فيتقلّص العائد المُجدي من الاستثمار، وتصبح فرص الخسارة وضياع المدخرات أكبر.
الدلالة الخامسة: الجري وراء الربح السريع، وهذا ما لا يحققه الاستثمار بالمعادن النفيسة، ولاسيما الذهب. فالجميع يتفق على أن المعدن الأصفر هو أصل يمثل "مخزن للقيمة" على الأمدين المتوسط والبعيد. الأسعار الآنية دائماً ما تشهد تذبذبات، لا تصب في مصلحة حديثي العهد من المضاربين.
الدلالة السادسة: التلهي بالجدل العقيم حول مصير احتياطي الذهب في مصرف لبنان، الذي وصلت قيمته إلى حدود 37 مليار دولار، وإن كان من الأجدى الاحتفاظ به أو التصرف فيه. وتحوّل هذا الحوار، الذي كان من المفترض أن يكون صحياً، إلى خلاف جذري مفرّق، بدلاً من أن يكون موضوعاً وطنيا جامعاً.
الدلالة السابعة: الميل إلى الفضول غير المنتج أو السلبي. فيلاحظ في الأسواق المالية أن الكثير من الأفراد يركزون على تتبع توقعات أسعار الذهب، بغض النظر عن قدرتهم الفعلية على الشراء أو الاستثمار. هذا السلوك يخلق ضغطاً شعبياً على الأسواق، ويبعد النقاش عن التحليل العلمي للاستثمار وأسس تقييم الأصول، مما يؤدي إلى انتشار معلومات وتوقعات شعبوية وغير مستندة إلى بيانات موضوعية.
الدلالة الثامنة: تعزيز العجز في الميزان التجاري، فالطلب الكبير على الذهب المستورد من الخارج للاحتفاظ به على شكل أونصات وسبائك، يزيد من نزيف العملة الصعبة ويؤثر سلباً على قدرة المحافظة على سعر صرف الليرة.
إن خلاصة هذه الدلالات تشير إلى الحاجة الماسة للإصلاحات المصرفية والمالية، بما يسهم في إعادة هذه المدخرات إلى المصارف لتقوم بدورها في إقراض القطاعات الإنتاجية أو ضمان توظيفها بسلاسة في أسهم الشركات بشكل مباشر. وبهذه الطريقة، تعم الفائدة الجميع، بدلاً من أن تبقى أصولاً جامدة لا تخدم الاقتصاد على المديين المتوسط والبعيد. فالاستثمار في الإصلاحات المالية لم يعد خياراً، بل ضرورة اقتصادية للحفاظ على مدخرات اللبنانيين وتنشيط الاقتصاد الوطني.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
