قليلة هي الأيام التي كانت للدولة اللبنانية فيها هيبة، مذ كانت دولة. سقى الله أيام "الفرقة 16" التابعة لقوى الأمن الداخلي والتي أنشئت بعد أحداث العام 1958. كان إذا لمح "الزعران" خيال قبَّعة نفرٍ من تلك الفرقة، يدبُّ الهمُّ في ركابهم، و"يقبِّعون" بالركض... و"يا أرجلَنا أعينينا".

واليوم (وأمس وأول من أمس)، لا هيبة، ولا من يهابون. ترقيع بترقيع وقصر نظر ومسايرات وحسابات انتخابية وزاروبيّة واعتبارات طائفية ومناطقية، على المستوى الرسمي، يقابلها على المستوى الشعبي فلتان واستقواء وتحريض واستباحة لكل القوانين والأعراف، وجرائم هنا وهناك وهنالك. وفي اختصار، "زعران"... وفالتون من أي عِقال، تحت شعارات وأقنعة سياسية ومطلبية ومذهبية. والدُّرجة (الموضة) الرائجة، هذه الأيام، وقبلها، الاحتجاج والتهديد بالمقاطعة والتعطيل والاعتكاف، والاعتصام وقطع الطُّرق والأرزاق، واحتلال الساحات، ومحاولة عزل مناطق واقتطاعها.

لكل اعتصام مما نسمع عنه ونقرأ ونشاهد، مطالب أقل ما يقال فيها إنها تعجيزية، إما لأنها مخالفة للقانون والدستور، وإما لأن المنطق لا يستقيم معها، وإما لأنها مزايدة متكئة على الشحن المذهبي والتحريض والعصبية.

وعليه، وبما أن لا أحد في لبنان أحسن من أحد، وبما أن هيهات تعود الهيبة، قرَّرتُ أن أنفذ اعتصاماً لتحقيق جملة مطالب محقة، أرجو ممن يهمه الأمر أن يؤيدَني فيه، حين أجدُ المكان المناسب لإقامته. أما المطالب فبسيطة:

- أريد أن أطَّلع بالتفصيل المملِّ ماذا دار من حوار بين الله وآدم وحواء، لأعرف لماذا طردهما الخالق من الجنة. كنا في نعيم، سامحكما الله يا جدَّيَّ الأبعدَيْن، وإن كان تراب الأرز الأغلى من الذهب لا يشكو من شيء.

- أريد أن أعرفَ كم كانت لتبلغ خسائرُ التُّجار القرطاجيِّين، أي الرأسماليين، لو دعموا هنيبعل في حربه على الأمبراطورية الرومانية. فلولا جشعُ هؤلاء لتغير مجرى التاريخ، ولحَكَمت بنتُ صورَ العالم، بالقيم التي كانت تنادي بها وتعتنقُها وتطبِّقها، ولما عانينا ما أورثتنا إياه روما مثالًا: حبُّ السيطرة الأمبريالية الاستعمارية.

- ... وأقفز من التاريخ السحيق إلى التاريخ الحديث. أريد أن أحصل على المحضر الكامل لاتفاق يالطا الذي تقاسم بموجبه الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة العالم، غير ناقص حرفًا أو حتى فاصلة، وظل جاري المفعول، حتى أمس القريب، إذ لم أعرف بعد على أي برٍّ رست بنا سفينة العمر المتبقي لنا.

- أريد أن أعرف كم عدد اليهود، ضحايا الهولوكوست التي نفَّذها نظام هتلر في حقهم، وما هي أسماؤهم وأرقام سجلاتهم، ومساقطهم وتواريخ ولادتهم، واحداً واحداً. لا لشيء إلَّا لأنني فضولي، وبالعامِّيَّة حشري.

- أريد أن أعرف عينَ مَن أصابت الرصاصة التي أطلقها المصري ذات مرة، وتحولَّت من ثم مثلاً شائعاً عن العشوائية في اتخاذ القرار... "يا ربي تجي في عينه".

- أريد أن أعرف مصير المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما احتلوا الواجهة السياسية طوال عقدين من الزمن تقريبًا، فخربوا الأرض وقضَوا على القيم، وتركونا في حَيرة من أمرنا: هل انتهى التاريخ لأنهم حكموا من خلف الكواليس بما طاب لهم من أفكار شيطانية جهنميَّة؟ أم هو يبدأ الآن، من جديد، برحيلهم؟

- أريد أن أعرف متى سينفذ المجتمع الدولي قراره إنشاء دولتين إسرائيلية وفلسطينية، فتُحلَّ أزمة الشرق الأوسط، وتنتهيَ في ضوئها أزمات كثيرة من حولنا وفي العالم، متفرِّعة منها؟ كم جميل أن ننام ليلة "مفرَّعين مبوْردين"، وكل ذي حق قد عاد إليه حقه.

- أريد أن أعرف كيف برر ويبرر المعارضون اللبنانيون للنظام السوري السابق، أرشيف تصريحات لهم ومقابلات تلفزيونية وإذاعية، حين كانوا يسبِّحون بحمده ويمجدونه صبح مساء، ويقفون على أبواب مسؤوليه، ولو ضابطَ استخبارات صغيراً، من أجل خدمة أو منصب؟ وإذا ما عادوا إلى هذه الثروة الوطنية المخبأة، ماذا يشعرون؟

- أريد أن أعرف ما معنى كلمة "الشِّنكاش"... الضائعِ في هذه الجمهورية اللبنانية التعيسة، مذ كانت، وفي كل العهود وكل المفاصل، وعلى مختلف المستويات.

- أريد أن أعرف كيف يشكو اللبنانيون من الغلاء وارتفاع أسعار كل السلع والخدمات، ويستمرون في "النَّق" والنَّعي والاحتجاج الكلامي، فيما زحمة السير تعني أن كل لبناني يملك سيارة، وأن مصروفها من الوقود في ظل تلك الزحمة يزداد عما تقدره الشركة المصنعة؛ وفيما المطاعم و"النَّايتات" تعجُّ بالرواد، وكلُّ فاتورة تسلخ الجلد وتنخر حتى العظام؛ وفيما مظاهر الغنى والترف و"التفشيخ" بادية للعيان، على كل مستوًى، من الحذاء إلى الهاتف الخلوي الذي يُبدَّل كلما أُنزل إلى السوق الاختراع الأحدث... من دون أن ننسى السؤال الأهم: من أين يأتون بالمال؟

- أريد أن أعرف من بقي ممن أيدوا العهد والحكومة الجديدة، إلى اليوم مؤيداً. منهم الشريك في السلطة المعارض المضارب، ومنهم الموعود بمنصب وقد خاب ظنه، ومنهم المراهن على إنجازات أو المنتظر إياها... ولكن. لأن حتى الشركاء في السلطة، ما عادوا "ممنونين".

- أريد أن أعرف كيف يخالف البعض المبدأ الذي وضعه ميشال شيحا، ومفاده أن استهدافَ طائفة لبنانية أو إلغاءَها، هو إلغاءُ للبنان... فتراهم يتمنون مثلاً أن تنصاع طائفة لهم ولفائض قوتهم، "إذا بقي منها شيء".

- أريد أن أعرف ما هو عمل "الميكانيزم". هل هو تصعيد القصف والاغتيالات وملاحقة الناس في سياراتهم، لا بل إلى غرف نومهم، واستهدافهم واصطيادهم كالطيور... كل خميس. ولا هلا بالخميس... أم التمتع بمشهد الاجتماع، تتوسطه أحياناً تلك السيدة عارضة الأزياء والمواقف. إذ قليلٌ من كرامة الموقف اللبناني تحيي الإنسان والوطن.

... هذه هي مطالبي. وأنا جاهز. فمن يؤيدني فيها، فليوافِني إلى ساح الاعتصام، وأعده بألَّا أكتفيَ بنصب خيمة، بل سأبني له قصرًا، لأن القصَّة طويلة؛ وألَّا أجعلَه ينام على الأرض، بل على حرير وريشِ نَعام، راحتُه قبل الدنيا كلها؛ وألَّا أعذِّبَ وسائل الإعلام كل يوم من أجل التغطية، لأنَّني سأنشئ محطة تلفزيونية وأخرى إذاعية وموقعًا إلكترونيًّا وجريدةً يومية ووَكالة أنباء ومجلةً أسبوعية، تهتم كلُّها بيوميات المعتصمين معي، وتبقيهم على صلة بالعالم؛ وألَّا أُتعبَ حنكَه بمضغ الطعام ومعدتَه بهضمِه، لأننا سنأكل معًا الصَّبر، من دون مفتاح الفرج، ونشربُ طول البال، طول أيام الاعتصام، ونتسلَّحُ بالإيمان، ولو حرِد منا تجار السلاح.

أمّا ساح الاعتصام... فما رأيكم بصنوبر بيروت حيث يحلو نشرُ عرض الدولة الضائعة هيبتُها، و"زعران" الوطن الفالتين؟

ولكن، قبلُ، مهلًا، هل بقي في بيروت صنوبر؟