أصاب مؤسسات القطاع العام، وبعض إداراته ووزاراته، بعد صدور قانون الشراء العام، ما أصابها "من بلع الموس"؛ فلا هي قادرة على هضمه، ولا قادرة على التنصل منه. ومن دون الرجوع إلى التجاوزات الكثيرة المسجلة منذ تاريخ صدور القانون في العام 2021، فإن جدول أعمال مجلس الوزراء الأخير يكشف استمرار محاولات الوزارات الإلتفاف على هذا القانون بحجة "العجلة" والعودة إلى التلزيم بالتراضي.
تضمن جدول أعمال جلسة 23 تشرين الأول الحالي، 44 بنداً، أربعة بنود منها تطلب موافقة مجلس الوزراء على توقيع عقود بالتراضي، وهي:
- طلب وزارة الطاقة والمياه تفويض الوزير توقيع عقد اتفاق رضائي مع مؤسسة البترول الكويتية للتجارة Corporation Petroleum Kuwait LTD، بصفتها ممثلة لدولة الكويت، يتعلق بتوريد كمية من مادة الغاز أويل لزوم معامل إنتاج الطاقة لدى مؤسسة كهرباء لبنان على سبيل التسوية، وذلك عملاً بأحكام الفقرة الخامسة من المادة 46 من قانون الشراء العام.
- طلب وزارة الإعلام الموافقة على تجديد عقد اتفاق بالتراضي مع شركة "انفولينك"، لتشغيل وصيانة أجهزة إرسال الإذاعة اللبنانية.
- عرض وزارة المالية موضوع رفض مراقب عقد النفقات التأشير على عقد اتفاق رضائي بين وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو.
- طلب وزارة الأشغال العامة والنقل الموافقة على تنفيذ أشغال عاجلة وضرورية ضمن مهلة زمنية قصيرة جداً، لا تسمح عملياً بإجراء مناقصة لتأهيل بعض أقسام شبكة الطرق، لارتباطها بتأمين مسار زيارة البابا إلى لبنان، وذلك بطريقة عروض الأسعار وتجزئتها سنداً لأحكام المادة 14 من قانون الشراء العام.
"العجلة" غير متوفرة
تتحجج الوزارات نظرياً بعاملي "العجلة"، وعدم توفُّر موضوع الشراء إلّا عند عارض واحد، للتهرب من المناقصات الشفافة. وهذا ما برز بالضبط في طلبي وزارتي الأشغال، والإعلام. فوزارة الإعلام طلبت تجديد عقد اتفاق بالتراضي مع شركة محددة، لتشغيل إذاعة الدولة، من دون ذكر المبررات. وعدا عن عدم انطباق شرطي العجلة، والاختصاص الفريد من نوعه للمورد، للاتفاق بالتراضي في هذه الحالة، يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني أن "المناقصة واجبة في حالات التشغيل والصيانة". وحتى لو سلمنا جدلا أن عرض الشركة المشغلة مغرٍ جداً، فلا يمكن أن نجزم من حيث المبدأ بأنه أفضل ما يمكن الحصول عليه من دون إتاحة المجال أمام شركات اخرى لتقديم عروضها عبر مناقصة شفافة. من الجهة الأخرى، فإن "استمرار إدارة الدولة اللبنانية لإذاعة، أمر غير منطقي ولا يصب في مصلحة تطويرها، وجعلها منافسة لسائر الإذاعات المحلية، أو تلك التي تبث من الخارج" يقول مارديني. ومن الأفضل برأيه "تولّي القطاع الخاص إدارتها لأنه أكفأ، ويجنّب الخزينة النفقات الكبيرة التي تدفع على التشغيل والصيانة، وتسديد رواتب موظفين من غير المؤكد إن كانوا يعملون، وتركها باباً للتوظيف السياسي وعقد الصفقات، من دون أن تحقق أي إيرادات للخزينة".
أما في ما خص طلب وزارة الأشغال، فـ"الأرجح أنه لا شيء مستعجل"، يجزم مارديني، وأساساً فإن الزيارة مجدولة في تاريخ الأول من كانون الأول، أي أن هناك أكثر من شهر لتنفيذ ما يجب إنجازه. وفي جميع الحالات، فمن الأفضل إجراء مناقصة بدلاً من تجزئة عملية الشراء تبعاً لأحكام المادة 14 من قانون الشراء العام، إذا أردنا جذب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وبحسب المادة نفسها فمن المؤكَّد عدم جواز تجزئة الشراء لتطبيق أحكام خاصة بكل جزء منها، بغَرَض تخفيض القيمة التقديرية لمشروع الشراء، أو بقصد التهرّب من الرقابة، أو من تطبيق أحكام هذا القانون، أو القوانين والأنظمة الأخرى. ويحتاج طلب وزارة الأشغال إلى تبرير واضح لعدم إجراء مناقصة.
التراضي في شراء النفط
البند الوحيد الذي ينطبق عليه إمكان توقيع عقدٍ بالتراضي هو الاتفاق مع "مؤسسة البترول الكويتية"، نظراً لكون العقد من دولةٍ إلى دولة. وتنصّ الفقرة الخامسة من المادة 46 على جواز التعاقد بالتراضي مع أشخاص القانون العام، كالمؤسّسات العامة والبلديات والجهات الدوليّة. وبحسب مارديني، فإن "هذا العقد يتضمّن حسماً بنسبة 50%، إذ ينصّ العرض على تزويد لبنان بكمية 132 ألف طنٍّ متري من الغاز أويل، 66 ألف طنٍّ منها ستكون هبة. وبما أن نسبة الهدر الفني وغير الفني تصل إلى 50%، فإن هذه الصفقة ستتيح تسديد كامل السعر من دون صعوبات أو تعثّر. بعبارات أخرى، فإن هذا العقد بالتراضي يسمح للدولة ومؤسّساتها بتسديد مبالغ أقل من المال، وليس أكثر، خلافًا لبقية العقود".
الدعم لهيئة الشراء العام
النزعة الجديدة القديمة، للاتفاق بالتراضي ، لا تدل من وجهة نظر مارديني، على "قرار ضمني بتجاوز هيئة الشراء العام أو التقليل من أهمية دورها، بل على العكس، فإن هذه الهيئة المنشأة بموجب القانون 244 الصادر في العام 2021، تحوز دعم الحكومة الحالية ورئاسة الجمهورية." ويؤكّد مارديني أن "هناك إصراراً على تلبية جميع حاجات الهيئة المالية والإدارية، وتعزيز جهازها البشري للقيام بدورها على أوسع نطاق ممكن". ويضيف أن "هناك تقدماً كبيراً لجهة الحد من إتمام الصفقات بالتراضي، ووقف المناقصات الوهمية وغير الحقيقية. وما يعزّز هذا الاتجاه هو تطوير منصة إلكترونية خاصة بالهيئة، تُدرج عليها جميع صفقات الشراء العام، سواء تلك التي نُفذت بالتراضي أو التي خضعت لمنافسة حقيقية." وتوفر هذه المنصة فرصة جدّية للمراقبة والمساءلة، وهما ما نحن بأمس الحاجة إليهما لتعزيز الشفافية، والتخلّص من النموذج القديم القائم على غيابها. وتتيح المنصة، أيضا، فرصة حقيقية لجميع الراغبين بالتقدّم إلى الصفقات العمومية والمشاركة فيها على نحو متكافئ وشفّاف.
على الرغم من كل ما تحقق على صعيد الشراء العام، فإن الطموح إلى الأفضل يتطلب التزاما جدياً من مختلف الجهات الشارية، سواء كانت وزارات أم إدارات أم بلديات، بالمنافسة كسبيل وحيد للحصول على أفضل الخدمات واقل الأسعار. فهذا، في نهاية المطاف، هو الهدف الأسمى من وراء إنشاء مثل هذه الهيئة الوطنية.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
