في شبكة الجيوسياسية المعقدّة يبدو المشهد الدولي متشابكاً. وإذا كانت الأزمات في أوكرانيا وغزة وفنزويلا والسودان تبدو نقاطاً ساخنة متباعدة ومنفصلة جغرافياً فإن نظرة أعمق تكشف أنها عقد مترابطة في شبكة جيوسياسية واحدة. هذا التشابك ليس صدفة، بل هو تعبير عن تحوّل بنيوي في النظام الدولي من هيمنة القطب الواحد إلى منافسة متعددة الأقطاب، وأن هذا العالم خوى من الأفكار الكبيرة ولم تعد تحركه سوى المصالح.
أوكرانيا أكثر الجبهات سخونة في الحرب الباردة الجديدة
الحرب في أوكرانيا تجاوزت طابع الصراعَين الثنائي والإقليمي لتصبح ساحة المواجهة المباشرة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وروسيا التي تسعى لإعادة رسم حدود النفوذ في أوروبا الشرقية. لكنّ هذا الصراع مظهر من مظاهر التنافس الدولي بين والولايات المتحدة والصين. وقد نجحت الصين إلى الآن في صدّ محاولات الاختراق أو الالتفاف الأميركية.
في هذه الحرب لا يزال الموقفان الروسي والأوكراني على تصلّبهما: كييف ترفض أي تنازل عن أراضيها، وموسكو تصر على الاعتراف بمكاسبها الميدانية شرطاً لأي تفاوض.
هنا يبدو واضحاً فشلُ الاقتراحات الأميركية الأخيرة، أي الخطة التي اقترحها الرئيس دونالد ترامب ثم أعاد تقديمها معدّلة، في كسر هذا الجمود. فكرة "تجميد القتال" على أساس الوضع الراهن رفضتها أوكرانيا التي ترى فيها تشريعاً للاحتلال، ورفضها الحلفاءُ الأوروبيون الذين يعتبرونها استسلاماً لمبدأ القوة. حتى روسيا وجدت أسباباً لرفضها مع أنها تميل لمصلحتها.
التداخل الاستراتيجي: إيران حلقة وصل
تظهر إيران مثالاً صارخاً على كيف تستفيد القوى المتوسطة من الصراعات المتعددة لتعزيز نفوذها. دعمت إيران روسيا في أوكرانيا بتزويدها بالمطيَّرات ومساعدتها في الهجمات السيبرانية. وتحالفت مع جماعات في غزة وعزّزت علاقاتها مع فنزويلا، وأصبحت ذات دور في ثلاث جبهات متباعدة جغرافياً لكن متقاربة استراتيجياً. هذا النمط من "الحروب المتعددة بالوكالة" يمثّل تحدياً للنموذج الغربي التقليدي في إدارة الأزمات.
الطاقة والذهب والمعادن النادرة تربط الأزمات
لا يمكن فهم ديناميّات هذه الصراعات بمعزل عن الجغرافيا العالمية للطاقة والمعادن النادرة. فنزويلا التي تختزن أكبر احتياطي للنفط تمثل ورقة ضغط بيد روسيا والصين ضد العقوبات الغربية.
وأوكرانيا لا تزال ممراً حيوياً لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا.
وتقع غزة في قلب منطقة تحدد أمن إمدادات الطاقة العالمية.
أما السودان فثري بشتى أنواع المعادن الثمينة والنادرة التي تؤثر في الاقتصاد والتكنولوجيا، وثري أيضاً بمساحاته الزراعية التي تؤهله ليكون الخزان الغذائي لأفريقيا. أي اضطراب في أحد هذه الملفات يرسل موجات تصدم الاقتصاد وأسواق الطاقة العالمية، وتخلق ضغوطاً اقتصادية وسياسية متبادلة بين القارات.
فشل الحلول السريعة: درس في تواضع القوة
تجربة مقترحات وقف إطلاق النار في أوكرانيا تقدّم درساً بالغ الأهمية: في عالم متعدد الأقطاب، لم تعد القوة العظمى الواحدة قادرة على فرض حلولها بسهولة. رفض أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين، وهم أعضاء في حلف شمال الأطلسي، الخطة الأميركية التي تقترح تجميد القتال على الخطوط الحالية وربط المساعدات بالتقدم في المفاوضات يُظهر أن حلفاء الولايات المتحدة التقليديين أصبحوا أكثر استقلالية في تقييم مصالحهم الأمنية؛ وأن المبادئ مثل السيادة والسلامة الإقليمية لا تزال تحظى بأولوية حتى أمام إغراءات وقف إطلاق النار المؤقت؛ وأنّ التضامن الإقليمي، وهو تضامن أوروبي في هذه الحالة، يمكن أن يشكّل قوة مضادة للضغوط الأميركية.
العواقب الداخلية
فشل إدارة ترامب في تحقيق اختراقات في هذه الملفات يترك تداعيات داخلية معقدة، خصوصاً في سياق الاستقطاب السياسي الحاد. فعجز الرئيس ترامب عن تحقيق "صفقات كبرى" يضعف سردية "صانع الصفقات العظيم". لكنّ ترامب بارع في رمي اللوم على الآخرين كالحلفاء أو البيروقراطية أو الخصوم السياسيين.
هذا الفشل يوفّر ذخيرة لخصوم ترامب الداخليين لانتقاد فعالية سياسته الخارجية وكفاءتها، ويزيد ريبة الناخبين تجاه قدرة أي إدارة أميركية على حل تعقيدات العالم بمفردها. وقد يدفع هذا نحو مزيد من الانعزال أو نحو الاندفاع إلى تعاون دولي أكبر.
بمعنى آخر، قد يخدم فشلُ الحلول السريعة خطاباً سياسياً داخلياً يتبنى شعار "أميركا أولاً" كرد فعل على تعقيدات العالم وعدم امتنان الحلفاء، أو قد يخدم المنطق المقابل الذي يلوم "أميركا أولاً" على تخليها عن الحلفاء التقليديين.
كيف يبدو المستقبل؟
الخلاصة الأولى هي أنه لم يعد ممكناً معالجة أي أزمة ككيان منفصل. حل الصراع في أوكرانيا مرتبط بتوازنات الطاقة العالمية التي تتأثر بفنزويلا والشرق الأوسط، بما فيه السودان.
الخلاصة الثانية هي صعود القوى المتوسطة والأطراف غير النظامية المرتبطة بها، مثل إيران والجماعات المسلحة وشركات المرتزقة، وسواها وهي جميعهم تستفيد من انشغال القوى الكبرى في جبهات متعددة لتعزيز نفوذها.
الخلاصة الثالثة هي تحوُّل مفهوم القوة. فالقوتان العسكرية والاقتصادية لم تعودا كافيتين لفرض الحلول. القوة الناعمة والقدرة على بناء التحالفات المرنة وفهم تعقيدات السياقات المحلية أصبحت عوامل حاسمة.
الخلاصة الرابعة هي أن التحالفات التقليدية كالتحالف الأطلسي والعلاقات الأوروبية الأميركية تواجه ضغوطاً لإعادة تعريف نفسها في عالم لم تعد الولايات المتحدة قائدته الوحيدة أو حتى المستعدّ للقيادة بدون قبض الثمن.
الخلاصة الخامسة هي أنّ التركيز على الحلول الأحادية أو الصفقات الكبرى يأتي على حساب الدبلوماسية المتعددة الأطراف والخطوات التراكمية الصغيرة التي قد تكون أكثر واقعية.
في المحصّلة النهائية، يقف الرئيس ترامب على مفترق طرق، خصوصاً أنه لا يحق له الترشح للرئاسة مرة جديدة. فهو يربح إذا تمكّن من إتمام تلك الصفقات السريعة بحيث يتجلى ربحه في تمكينه من ضمان فوز الجمهوريين في الاحتفاظ بالأغلبية النيابية في المجلسين وبالرئاسة المقبلة. وهو أول من يتأثر بالفشل إذ ستنفضّ عنه الجماعات التي تؤيده حالياً حين ترى أن سياسته الاقتصادية فشلت وضغوطه الدولية قصّرت. وعليه، فليس من المستبعد أن يشنّ حرباً لأنه في حاجة إلى إنجاز، وقد تكون هذه الحرب في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ويكون رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو هو الذي يدفع ثمنها لمصلحة قائدة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو.
على أي حال، ثمة تقارير تقول إن مادورو حطّ رحاله في موسكو.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]
